قوله :﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلا اائِكَةِ﴾ في " إذْ " أوجهٌ : أحدها : أنَّهُ بدلُّ ثالث من قوله ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ﴾.
الثاني : أن ينتصب بقوله " يُثَبِّتَ ".
قالهما الزمخشريُّ ولم يبن ذلك على عودِ الضمير.
وأمَّا ابنُ عطية : فبناه على عَوْدِ الضَّمير في قوله " بِهِ " فقال : العاملُ في " إذْ " العاملُ الأول على ما تقدَّم فيما قبلها، ولو قدَّرناهُ قريباً لكان قوله :" ويُثَبِّتَ " على تأويل عوده على الرَّبْطِ.
وأمَّا على تأويل عوده على :" المَاءِ " فيقلق أن يعمل " ويُثَبِّتَ " في " إذ " وإنَّما قلق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبُّت وزمان الوحي، فإنَّ إنزالَ المطر وما تعلَّق به من تعليلاتٍ متقدمٌ على تغشية النُّعاس، وهذا الوحيُ وتغشيةُ النُّعاس والإيحاءُ كانا وقت القتال.
قوله :" أنِّي معَكُمْ " مفعولٌ بـ " يُوحِي " أي : يوحي كوني كعكم بالغلبةِ والنصر.
وقرأ عيسى بن عمر - بخلافٍ عنه - " أنِّي مَعَكُمْ " بكسرِ الهمزةِ وفيه وجهان : أحدهما : أنَّ ذلك على إضمار القول، وهو مذهب البصريين.
والثاني : إجراء " يُوحِي " مُجْرَى القول ؛ لأنَّهُ بمعناه، وهو مذهب الكوفيين.
فصل في المعنى وجهان : أحدهما : أنَّه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنَّهُ تعالى معهم أي مع الملائكة حال إرسالهم رِدْءاً للمسلمين.
والثاني : أنَّهُ تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم، وثبتوهم، وهذا أولى ؛ لأن المقصود إزالة التَّخويف، والملائكةُ لم يخافوا الكُفَّار، وإنَّما الخائف هم المسلمون.
٤٧٠
ثم قال :﴿فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ في كيفيَّةِ هذا التَّثْبيت وجوهٌ : فقيل : إنَّهم عرَّفُوا الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّ الله ناصر المؤمنين والرَّسول عرَّف المؤمنين ذلك، فهذا هو التثبيتُ.
وقيل : إنَّ الشيطان كما يُمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان، فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهامِ إليه، فالتثبيت من هذا الباب.
وقيل : إنَّ الملائكة كانوا يتشبَّهُون بصورِ رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنَّصر والفتح، والظَّفَرِ.
قول :﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ﴾ وهذا من النعم الجليلة، لأنَّ أمير النفس هو القلب فلمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى أنَّهُ ربط قلوب المؤمنين أي : قوَّاها، وأزال الخوف عنها ذكر أنه ألقى الرُّعْبَ في قلوب الكافرينَ، فكان ذلك من أعظمِ نعم الله تعالى على المؤمنين.
قوله :" فاضْرِبُوا " قيل : هذا أمر للملائكة متصلٌ بقوله تعالى :" فَثَبِّتُوا ".
وقيل : أمر للمؤمنين وهو الصَّحيح لما تقدَّم من أنَّ الملائكة لم ينزلوا للمقاتلة، بل لتقوية قُلُوبِ المؤمنين وتثبيتهم.
قوله :" فوْقَ الأعناقِ " فيه أوجه : أحدها : أنَّ " فوْقَ " باقيةٌ على ظرفيتها والمفعولُ محذوفٌ، أي : فاضربوهم فوق الأعناقِ.
علَّمَهُم كيف يضربونهم.
والثاني : أنَّ " فوْقَ " مفعولٌ به على الاتَّساع ؛ لأنه عبارةٌ عن الرَّأسِ، كأنَّه قيل : فاضربوا رُءوسهم، وهذا ليس بجيد ؛ لأنَّهُ لا يتصرَّف.
وزعم بعضهم أنه يتصرَّف، وأنك تقول : فوقُك رَأسُك برفع فوقك، وهو ظاهرُ قول الزمخشريِّ، فإنه قال :" فَوْقَ الأعْنَاقِ " أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنَّها مفاصلٌ.
الثالث :- وهو قول أبي عبيدة - : أنَّها بمعنى " على " أي : على الأعناقِ ويكون المفعولُ محذوفاً تقديره : فاضربوهم على الأعناق، وهو قريبٌ من الأول.
الرابع : قال ابنُ قتيبة : هي بمعنى :" دون ".
قال ابن عطيَّة :" وهذا خطأ بيِّنٌ وغلطٌ فاحشٌ، وإنَّما دخل عليه اللَّبْس من قوله :﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة : ٢٦] أي : فما دونها وليست " فوق " هنا بمعنى " دون " وإنَّما المرادُ : فَمَأ فوقها في القلَّة والصِّغَرِ ".
الخامس : أنها زائدةٌ أي : اضْرِبُوا الأعناقَ، وهو قول أبي الحسنِ.
وهذا عند الجمهور خطأ ؛ لأنَّ زيادة الأسماءِ لا يجوزُ.
قوله :﴿...
مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾
يجوزُ أن يتعلَّق :" مِنْهُمْ " بالأمر قبله، أي : ابتدئوا
٤٧١
الضَّرب من هذه الأماكن، وهذا الكلامُ مع ما قبله معناه : اضربوهم في جميع الأماكن والأعضاءِ من أعاليهم إلى أسافلهم، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال من :" كُلَّ بنانٍ " لأنَّهُ في الأصل يجوزُ أن يكون صفةً لو تأخَّر، قال أبُو البقاءِ :" ويَضْعُفُ أن يكون حالاً من " بَنَانٍ " إذْ فيه تقديمُ حالِ المضافِ إليه على المضاف ".
فكأنَّ المعنى : اضربوهم كيف ما كان.
قال الزمخشريُّ : يعني ضرب الهام.
قال :[الوافر] ٢٦٧٧ -....................
وأضْرِبُ هَامَة البْطَلِ المُشِيحِ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٧٠
وقال :[البسيط] ٢٦٧٨ - غَشَّيْتُهُ وهْوَ في جَأواء بَاسِلَةٍ
عَضْباً أصَابَ سَواءَ الرَّأسِ فانْفلقَا


الصفحة التالية
Icon