وقال : شاهتِ الوجوه، فلم يق مشرك إلاَّ ودخل في عينه وفمه ومنخريه منها.
فانهزمُوا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم.
" وقال قتادةُ وابن زيد : ذكر لنا " أن رسول الله ﷺ أخذ يوم بدرٍ ثلاث حصيات فرمَى بحصاة في ميمنة القوم، وبحصاة في ميسرة القوم، وبحصاة بين ظهرهم، وقال : شاهت الوجوه فانهزموا " فذلك قوله :﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال : ١٧].
إذْ ليس في وُسْع أحد من البشر أن يَرْمي كَفّاص من الحصى إلى وجوه جيش، فلا تبقى فيهم عينٌ إلاَّ ويُصِيبُهَا منه شيء.
وقيل : المعنى : وما بلغت إذ رميت ولكن اللَّه بلغ، وقيل : وما رميتَ بالرُّعْبَ في قلوبهم إذ رميت بالحصاء ولكن اللَّه رمى الرُّعب في قلوبهم حتى انهزموا.
القول الثاني : أنَّهَا نزلت يوم خيبر.
" روي أنّه عليه الصَّلاة والسَّلام أخَذَ قوساً وهو على باب خيبر، فرمى سهماً، فأقبل السّهمُ حتّى قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه "، فنزلت الآية.
القول الثالث : أنَّهَا نزلت في يوم أحد، " وذلك أن أمية بن خلف أتَى النَّبيَّ ﷺ بعظم رميمٍ وقَتَّةٍ، وقال : يا محمَّدُ، من يُحْيي هذا وهو رميمٌ ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :" يُحييه اللَّهُ يُميتُكَ ثم يُحْييك ثم يدخلك النَّار " فأسر يوم بدر، فلما افتدي قال لرسول الله ﷺ : إنَّ عندي فرساً أعلفها كلَّ يوم فرقاً من ذرة كي أقتلك عليها.
فقال عليه السَّلامُ :" بَلْ أنا أقْتُلكَ إنْ شاءَ اللَّهُ " فلمَّا كان يوم أحد أقبل أبَيّ يركض على ذلك الفرس حتى دنا من رسول اللَّهِ ﷺ فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه.
فقال رسول الله ﷺ :" اسْتَأخِرُوا " ورماه بحربة فكسر ضِلعاً من أضلاعه "، فحمل فمات ببعض الطري ففي ذلك اليوم نزلت الآية.
والصَّحيحُ أنَّها نزلت في يوم بدر وإلاَّ لدخل في أثناء القصَّة كلام أجنبي عنها، وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقئع ؛ لأنَّ العبرة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّببِ.
٤٨١
فصل ومعنى الآية : أنَّ القبضةَ من الحصباءِ الَّتي رميتها، فأنت ما رميتها في الحقيقة ؛ لأنَّ رمْيَكَ لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي سائر البشر، ولكن اللَّه رماها حيثُ أنفذ أجزاء ذلك التراب وأوصلها إلى عيونهم، فصورة الرمية صدرت من الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأثرها إنَّما صدر من الله تعالى، فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات.
واحتج أهل السُّنَّةِ بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى ؛ لأنَّ الله تعالى قال :﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ [الأنفال : ١٧].
ومن المعلوم أنهم جرحوا، فدلَّ هذا على أان حدوث تلك الأفعال إنما حصل من اللَّه تعالى.
وقوله :﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ أثبت كونه عليه الصَّلاة والسَّلام رامياً ونفى عنه كونه رامياً، فوجب حمله على أنه رماه كسباً وأنه ما رماه خلقاً.
فإن قيل : أما قوله :﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ فيه وجوه : أحدها : أنَّ قتل الكُفَّارِ إنما تيسَّر بمعونة الله ونصره وتأييده، فصحت هذه الإضافة.
وثانيها : أن الجرح كان إليهم وإخراج الروح كان إلى الله، والتقدير : فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم.
وأما قوله :﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾.
قال القاضي : قيل : فيه أشياء : منها أنَّ الرمية الواحدة لا توجب وصول التُّراب إلى عيونهم، فكان وصول أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلاَ بإيصالِ اللَّهِ تعالى، ومنها : أنَّ التُرابَ الذي رماه كان قليلاً فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل، فدل على أنَّ الله تعالى ضمَّ إليها سائر أجزاء التُّرابِ، فأوصلها إلى عيونهم.
ومنها : أنَّ عند رميه ألقى الله الرُّعْبَ في قلوبهم، فكان المُرَادُ من قوله :﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ هو أنه تعالى رمى قلوبهم الرُّعْب.
فالجوابُ : أنَّ كلَّ ما ذكروه عدولٌ عن الظَّاهرِ، والأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ.
قوله :﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ، أي : وليبلي فعل ذلك، أو يكون معطوفاً على علةٍ محذوفة، أي : ولكن اللَّه رمى ليمحق الكفار، وليُبْلي المؤمنين، والبلاء في الخير والشَّر، قال زهير :[الوافر] ٢٦٨٩ -........................
وإبْلاهُمَا خَيْرَ البَلاءِ الَّذِي يَبْلُو
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٧٩
والهاءُ في " مِنْهُ " تعود على الظفر بالمشركين.
٤٨٢


الصفحة التالية
Icon