وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الأمر يفيدُ الوجوب ؛ لأنها تدل على أنه لا بُدَّ من الإجابة في كل ما دعاه الله إليه.
فإن قيل : قوله ﴿اسْتَجِيبُواْ للَّهِ﴾ أمرٌ.
فلم قلتم : إنَّه على الوجوب ؟ وهل النّزاع إلا فيه، فيرجع حاصل هذا الكلام إلى إثباتِ أنَّ الأمر للوجوب بناء على أنَّ هذا الأمر يفيدُ الوجوب فيقتضي إثبات الشيء بنفسه، وهو مُحال.
فالجواب : أنَّ من المعلوم بالضَّرورة أنَّ كل ما أمر اللَّهُ به فهو مرغب فيه مندوب إليه، فلو حملنا قوله " اسْتَجِيبوا " على هذا المعنى كان ذلك جارياً مجرى إيضاح الواضحات وهو عبثٌ، فوجب حمله على فائدة زائدة، وهي الوجوب صوتاً لهذا النصّ عن التعطيل.
ويؤيده ما روى أبو هريرة " أنَّ النبي ﷺ مَرَّ على باب أبي بن كعب فناداه وهو في الصَّلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال :" ما منعكَ عَنْ إجابتِي " ؟ فقال : كنتُ أصلِّي، فقال :" أليس الله يقول :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ فلامه على ترك الإجابة " متمسكاً بهذه الآية.
٤٨٩
فإن قيل : مسألةُ الأمر - يفيد الوجوب - مسألةٌ قطعيَّةٌ، فلا يجوز التمسك فيها بخبر الواحد.
فالجوابُ : لا نسلم أنَّ مسألة الأمر - يفيدُ الوجوب - مسألة قطعيةٌ، بل هي ظنيَّةٌ ؛ لأن المقصود منها العمل، والدلائل الظنية كافية في العمل.
فإن قيل : إنَّ الله تعالى ما أمر بالإجابة مطلقاً، بل بشرط خاص، وهو قوله :﴿إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ فلم قلتم إنَّ هذا الشرط الخاص حاصلٌ في جيمع الأوامر ؟ فالجواب : أنَّ قصة أبي تدلُّ على أنَّ هذا الحكم عام ليس مخصصاً بشرط معين، وأيضاً فلا يمكن حمل الحياة ههنا على نفس الحياة ؛ لأنَّ إحياء الحيِّ محالٌ ؛ فوجب حملُه على شيء آخر وهو الفوز بالثواب، وكل ما دعا اللَّهُ إليه ورغب فيه مشتمل على الثواب، فكان هذا الحكم عاماً في جميع الأومر.
فصل في المُرادِ بقوله " لِمَا يُحْييكُم " وجوه : أحدها : قال السُّديُّ : هو الإيمان والإسلامُ وفيه الحياة، وقال قتادةُ : يعني القرآن فيه الحياة والنَّجاة.
وقال مجاهدٌ : هو الحق.
وقال ابن إسحاق : الجهادُ أعزكم اللَّهُ فيه بعد الذُّلِّ، وقال القتيبيُّ : الشَّهادةُ، قال تعالى :﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران : ١٦٩].
قوله ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ قال الواحديُّ حكاية عن ابن عباس، والضحاك : يحولُ بين المرءِ الكافرِ وطاعته، ويحولُ بين المطيع ومعصيته، فالسَّعيدُ من أسعده اللَّهُ، والشقيُّ من أضله الله، والقلوب بيده يقلبها كيف يشاء.
وقال السُّديُّ : يحول بين الإنسان وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه.
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ، وعطاءٌ : يحولُ بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان.
وقيلك إنَّ القوم لمَّا دعوا إلى القتال في حالة الضعف ساءت ظنونهم واختلجت
٤٩٠
صدورهم، فقيل لهم : قاتلُوا في سبيل اللَّهِ، واعلموا أنَّ الله يحُولُ بين المرءِ وقلبه فيبدلُ الله الخوف أمناً، والجبن جراءة.
قوله :" بَيْنَ المَرْءِ " العامَّةُ على فتح الميم.
وقرأ ابن أبي إسحاق : بكسرها على إتباعها لحركة الهمزة، وذلك ان في " المَرْءِ " لغتين : أفصحهما : فَتْح الميم مطلقاً، والثانية : إتباع الميم لحركة الإعراب فتقول : هذا مُرْءٌ - بضم الميم، ورأيت مَرْءاً - بفتحها، ومررت بِمِرْءٍ - بكسرها، وقرأ الحسن، والزهري : بفتح الميم وتشديد الرَّاءِ.
وتوجيهها : أن يكون نقل حركة الهمزة إلى الرَّاءِ، ثم ضعَّف الراء، وأجرى الوصل مُجْرى الوقف.
قوله " وأنَّهُ " يجوز أن تكون الهاء ضمير الأمر والشأن، وأن تعود على الله تعالى، وهو الأحسن لقوله :" إلَيْهِ تُحْشَرُونَ " أي إلى اللَّهِ ؛ ولا تتركون مهملين.
قوله ﴿بَيْنَ الْمَرْءِ﴾.
في " لا " وجهان : أحدهما : أنَّها ناهيةٌ، وعلى هذا، فالجملةُ لا يجوزُ أن تكون صفةً لـ " فِتْنَةً " لأنَّ الجملةًَ الطلبية لا تقعُ صفةً، ويجوز أن تكون محمولة لقول، ذلك القولُ هو الصِّفة أي : فتنةً مقولاً فيها : لا تُصيبن، والنَّهيُ في الصورة للمصيبة، وفي المعنى للمخاطبين، وهو في المعنى كقولهم : لا أرَيَنَّكَ ههنا، أي : لا تتعاطوا أسباباً يُصيبكم بسببها مصيبة لا تخص ظالمكم، ونونُ التوكيد على هذا في محلِّها، ونظيرُ إضمار القول قوله :[الرجز]
٢٦٩١ - جاءُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأيْتَ الذِّئْبَ قَط
أي مقول فيها ما رأيت.
والثاني : أن " لا " نافية، والجملةُ صفة لـ " فِتْنَةٌ " وهذا واضحٌ من هذه الجهة إلاَّ أنَّهُ يشكل عليه توكيد المضارع في غير قسم، ولا طلب، ولا شرط، وفيه خلافٌ : هل يجري المنفيُ بـ " لا " مجرى النَّهي ؟ فقال بعضهم : نعم ؛ واستشهد بقوله :[الطويل] ٢٦٩٢ - فَلا الجَارةُ الدُّنْيَا بها تَلْحَينَّهَا
ولا الضَّيْفُ فيها إن أنَاخَ مُحَوِّلُ


الصفحة التالية
Icon