وقرأ ابن وثَّابٍ " لِيُثِّبتُوكَ " فعدَّاهُ بالتضعيف، وقرأ النخعي " لِيبيتُوك " من البيات والمعنى : قال ابنُ عبَّاسٍ : ليوثقوك ومن شد فقد أثبت ؛ لأنَّهُ لا يقدر على الحركة، ولهذا يقال لمن اشتدَّتْ به علة أو جراحة تمنعه من الحركة قد أثْبِتَ فلانٌ، فهو مُثْبَتٌ.
وقيل : ليسجنوك، وقيل : ليثبتوك في بيتٍ، أو يقتلوك، وهو ما حكي من أبي جهل " أو يُخْرِجُوكَ " من مكَّة كما تقدم.
ثم قال :﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾ قال الضحاكُ : يصنعون ويصنع اللَّهُ، والمكرُ من الله التدبير بالحقِّ، وقيل : يجازيهم جزاء المكر.
﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ وقد تقدَّم الكلام في تفسير " المَكْرِ " في حق الله تعالى في آل عمران عند قوله :﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل عمران : ٥٤].
فإن قيل : كيف قال ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ ولا خير في مكرهم ؟ فالجوابُ من وجوه : أحد : أنَّ المراد أقوى الماكرين، فوضع " خَيْرٌ " موضع " أقْوَى " تنبيهاً على أنَّ كُلَّ مكر، فإنَّهُ يبطل في مقابلة فعل اللَّهِ تعالى.
وثانيها : أنَّ المُرادَ لو قدر في مكرهم ما يكون خيراً.
وثالثها : أنَّ المراد ليس هو التفضيل، بل المرادُ أنَّهُ في نفسه خير كقولك : الزبد خير من الله، أي : من عند اللَّهِ.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٠
قوله تعالى :﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا﴾ الآية.
لمَّا حكى مكرهم في ذاتِ محمَّدٍ، حكى مكرهم في دين محمَّدٍ.
روي أنَّ النَّضْرَ بن الحارث كان يختلف تاجراً إلى فارس والحيرةِ فيسمع أخبار رستم وسفنديار، وأحاديث العجمِ، واشترى أحاديث كليلة ودمنة، ويمر باليهود
٥٠٢
والنصارى فيراهم يقراءون التوراة والإنجيلن ويركعون ويسجدون فجاء مكَّة فوجد محمداً ﷺ يصلِّي ويقرأ القرآن، وكان يقعدُ مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عيلهم ساطير الأوَّلين أخبار الأمم الماضية وأسماءهم، وما سطر الأولون في كتبهم.
وكان يزعمُ أنها مثل ما يذكره مُحمَّدٍ من قصص الأولين، فهذا هو المراد من قوله ﴿لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾، والأساطير : جمع أسطورة وهي المكتوبة.
فإن قيل : الاعتمادُ على كون القرآن معجزاً هو أنَّ الله تعالى تحدَّى العرب بمعارضته فلم يأتوا بها، وهذا الآيةُ تدلُّ على أنه أتى بالمعارضة.
فالجواب : أن كلمة " لو " تفيدُ انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فقوله :﴿لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا﴾ يدلُّ على أنه ما شاء ذلك القول، وما قالوا ؛ فثبت أنَّ النضر بن الحارث أقرَّ أنَّهُ ما أتى بالمعارضة، وإنَّما أخبر أنه لو شاء أتى بها، والمقصود إنَّما يحصل لو أتى بالمعارضة امَّا مجرَّد هذا القول، فلا فائدة فيه.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٢
قوله :﴿وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ﴾.
نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدَّارِ.
قال ابنُ عباسٍ : لمَّا قصَّ رسولُ الله ﷺ شأن القرون الماضية قال النَّضْرُ : لو شئت لقلتُ مثل هذا إن هذا إلا ما سطر الأوَّلُونَ في كتبهم.
فقال له عثمانُ بن مظعون : اتق الله فإن محمداً يقول الحقَّ، قال : وأنا أقول الحق.
قال عثمان : فإنَّ محمداً يقول : لا إله إلاَّ الله، قال : وأنا أقول : لا إله إلا الله ولكن هذه بنات الله، يعني : الأصنام.
ثم قال :﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا﴾ الذي يقوله محمد " هُو الحقَّ من عندكَ ".
فإن قيل : في الآية إشكال من وجهين : أحدهما : أن قوله ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ﴾ الآية.
حكاهُ الله عن كلام الكُفَّار، وهو من جنس نظم القرآن، فقد حصلت المعارضة في هذا وحكي عنهم في
٥٠٣


الصفحة التالية
Icon