لأجلهم هذا القول :" إن ينتَهُوا " ن ولو كان بمعنى خاطبهم به، لقيل : إن تَنْتَهُوا يغفر لكم وهي قراءةُ ابن مسعود، ونحو ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ﴾ [الأحقاف : ١١] خاطبوا به غيرهم لِيسمْعَوهُ " وقرىء " يَغْفره " مبنياً للفاعل، وهو ضمير يعود على الله تعالى.
فصل المعنى : قُل للَّذين كفرُوا إن ينتهوا عن الكُفْر وعداوة الرَّسُولِ ويسلموا ﴿يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ من كفرهم وعداوتهم للرَّسُولِ، وإن عَادُوا إليه، وأصَرُّوا عليه :﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ﴾ في نُصرةِ الله أنبياءه، أولياءه، وإهلاك أعداءه ؛ فليتوقَّعُوا مثل ذلك.
وقال يحيى بنُ معاذ الرازي : توحيد ساعة لم يعجز عن هدم ما قبله من كُفْرٍ، وأرجو ألاَّ يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.
واستدلُّوا بهذه الآية على صحَّة توبة الزِّنديقِ، وأنها تقبل، واستدلوا بها أيضاً على أنَّ الكفَّار ليسوا مخاطبين بالفروع ؛ لأنَّها لا تصح منهم في حال الكفر، وبعد الإسلام لا يلزم قضاؤها.
واحتجُّوا بها أيضاً على أنَّ المرتد إذا أسلم لا يلزمه قضاء العبادات الَّتي تركها في حال الردَّةِ.
قوله تعالى :﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ الآية.
لمَّا بينَّ أن الكفار إن انتهوا عن الكفر غفر لهم، وإن عادوا فهم متوعدون، أتبعه بأن أمر بقتالهم ذا أصروا، فقال :﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾.
وقال عروة بن الزبير :" كان المؤمنون يفتنون عن دين اللَّهِ في مبدأ الدَّعْوَة، فافتتن بعض المسلمين، فأمر رسول الله ﷺ المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشةِ، وفتنة ثانية وهي أنه لمَّا بايعت الأنصارُ رسول الله ﷺ بيعة العقبة، أرادت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكَّة عن دينهم ؛ فأصاب المؤمنين جهدٌ شديدق، فهذا هو المراد من الفتنةِ ؛ فأمر اللَّهُ بقتالهم حتَّى تزول هذه الفتنة ".
قال المفسِّرُون :﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي : شِرْك.
وقال الربيعُ :" حتَّى لا يفتن مؤمن عن دينه ".
قال القاضي " إنه تعالى أمر بقتالهم، ثم بيَّن له قتالهم، فقال :﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ ويخلص الدِّين الذي هو دينُ الله من سائر الأديانِ، وإنَّما يحصل هذا المقصود إذا زال الكفر بالكليَّة "، " ويكون " العامَّةُ على نصبه، نسقاً على المنصُوبِ مرفوعاً على الاستئناف.
٥١٥
قوله " فإن انتهَواْ " عن الكُفْرِ والمعاصي، بالتَّوبة والإيمان، فإنَّ اللَّه عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم.
قرأ الحسنُ ويعقوبُ وسليمانُ بن سلام :" بما تَعْمَلُون " بتاء الخطابِ ؛ " وإن تولَّوْا " أي : عن التوبة والإيمان، ﴿فَاعْلَمُوا ااْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ﴾ أي : وليكم وهو يحفظكم، ويدفع البلاء " عَنْكُم ".
وفي " مَولاكُمُ " وجهان : أظهرهما : أنَّ " مَولاكُم " هو الخبر، و " نِعْمَ المَوْلَى " جملةٌ مستقلةٌ سيقت للمدح.
والثاني : أن يكون بدلاً من " اللَّه " والجملةُ المدحيَّةُ خبر لـ " أنَّ " والمخصوصُ بالمدح محذوف، أي : نِعْمَ المولى اللَّهُ، أو ربُّكُم.
وكلُّ ما كان من حماية هذا المولى، ومن كان في حفظه، كان آمناً من الآفات مصوناً عن المخوفات.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥١٤
قوله تعالى :﴿وَاعْلَمُوا اا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ الآية.
لمَّا أمر بقتال الكفار بقوله تعالى :﴿وَقَاتِلُوهُمْ﴾ وعند المقاتلة قد تحصل الغنيمة، ذكر تعالى حكم الغنيمة، والظَّاهرُ أنَّ " ما " هذه موصولةٌ بمعنى " الَّذي "، وكان من حقِّها أن تكتب منفصلةً من " أنَّ " كما كُتبت :﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ﴾ [الأنعام : ١٣٤] منفصلةً، ولكن كذا رُسِمَت.
و " غَنِمْتُم " صلتها، وعائدها محذوف لاستكمال الشُّروطِ، أي : غَنِمْتُمُوه.
وقوله " فأنَّ لِلَّهِ " الفاءُ مزيدةٌ في الخبر ؛ لأنَّ المبتدأ ضُمِّن معنى الشَّرطِ، ولا يَضُرُّ دخولُ الناسخ عليه ؛ لأنه لَمْ يُغَيِّر معناه، وهذا كقوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ﴾ ثم قال :" فَلَهُم " والأخفش مع تجويزه زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً، يمنع زيادتها في الموصول المشبه بالشَّرط إذا دخلت عليه " إنَّ " المكسورة، وآية البروج [١٠] حُجَّةٌ عليه.
٥١٦


الصفحة التالية
Icon