قوله :﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ﴾.
لمَّا أوجب على رسوله أن يُشرِّد من صدر منه نقض العهدِ، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النَّقض أمره في هذا الآية بالإعداد للكُفَّارِ.
قويل : إنَّ الصحابة لمَّا قصدوا الكفار يوم بدر بلا آلة ولا عدة أمرهم الله تعالى ألاَّ يعودوا لمثله، وأن يعدُّوا للكفرا ما أمكنهم من آلة وعدة وقوة.
والإعداد : اتخاذ الشيء لوقت الحاجة.
والمراد بالقوة : الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاح.
قال - عليه الصَّلاة والسلام - على المنبر " ألا إنَّ القُوَّة الرَّمي ألا إنَّ القُوَّة الرَّمي ألا إنَّ القُوَّة الرَّميُ "
٥٥١
وقال بعضهم : القوة هي الحصون.
وقال أهل المعاني : هذا عام في كل ما يتوقى به على الحرب.
وقوله عليه الصلاة والسلام " القُوَّةُ هي الرَّمْيُ " لا ينفي كون غير الرمي معتبراً، كقوله عليه الصلاة والسلام :" الحَجُّ عرفة " و " النَّدمُ توْبةٌ " لا ينفي اعتبار غيره.
فإن قيل : قوله :﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ﴾ كان يكفي، فلم خصَّ الرمي والخيل بالذكر ؟.
فالجوابُ : أنَّ الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها الَّتي عقد الخير في نواصيها، وهي أقوى الدّواب وأشد العدة وحصون الفرسان، وبها يُجالُ في الميدان، خصَّها بالذِّكر تشريفاً وأقسم بغبارها تكريماً، فقال :﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً﴾ [العاديات : ١] الآياتُ، ولمَّا كانت السهامُ من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في العدوَّ، وأقربها تناولاً للأرواح، خصَّها رسول الله ﷺ بالذكر لها ؛ ونظير هذا قوله تعالى :﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة : ٨٩] بعد ذكر الملائكة، ومثله كثير.
قوله " مِن قُوَّةٍ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبها وجهان : أحدهما : أنَّهُ الموصول، والثاني : أنه العائد عليه، إذ التقديرُ : ما استطعتموه حال كونه بعض القوة، ويجوزُ أن تكون " مِنْ " لبيان الجِنْسِ.
قوله :" ومِن ربَاطِ "، جوَّزُوا فيه أن يكون جمع " رَبْط " مصدر : رَبَط يَربط، نحو : كَعْب وكِعَاب، وكَلْب وكِلاب، وأن يكون مصدراً لـ " رَبَطَ "، نحو : صَاحَ صِيَاحاً.
قالوا : لأنَّ مصادر الثلاثي لا تنقاس، وأن يكون مصدر :" رَابِط "، ومعنى المفاعلة : أنَّ ارتباط الخيل يفعله كلُّ واحد لفعل الآخر، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً، قال معناه ابن عطيَّة.
قال أبُو حيَّان : قوله " مصادرُ الثلاثي غير المزيد لا تَنْقَاسُ " ليس بصحيحٍ، بل لها مصادر منقاسةٌ ذكرها النحويون.
قال شهابُ الدِّين :" في المسألة خلافٌ مشهور، وهو لم ينقل الإجماع على عدم القياسِ حتى يرُدَّ عليه بالخلاف ؛ فإنَّهُ قد يكون اختيار أحد المذاهب، وقال به، فلا يُردُّ عليه بالقول الآخر ".
وقال الزمخشريُّ :" والرِّباط : الخَيْلُ التي تُرْبط في سبيل الله ويجوز أن يُسمَّى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوزُ أن يكون جمع : رَبيط يعني : بمعنى مَربُوط، كـ : فَصِيل وفِصَال.
والمصدرُ هنا مضافٌ لمفعوله "
٥٥٢
وقرأ الحسنُ، وأبو حيوة، ومالك بن دينار :" ومِنْ رُبُط " بضمتين، وعن الحسن أيضاً " رُبْط " بضم وسكون، نحو : كتاب وكُتْب.
قال ابنُ عطيَّة " وفي جَمْعه، وهو مصدرٌ غيرُ مختلفٍ نظرٌ ".
قال شهابُ الدِّين " لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنه مصدرن بل حكى أبو زيدٍ أنَّ " الرِّبَاط " الخمسةُ من الخيلِ فما فوقها، وأن جمعها " رُبُط " ولو سُلِّم أنَّهُ مصدرٌ فلا نُسَلِّم أنَّهُ لم تختلف أنواعه، وقد تقدَّم أنَّ " رباطاً " يجوزُ أن يكون جمعالً لـ " رَبْط " المصدر، فما كان جواباً هناك، فهو جوابٌ هنا ".
فصل قال القرطبي :" روى أبُو حاتمٍ عن أبي زيد : الرِّباطُ من الخيل : الخَمْسُ فما فوقها، وجماعته " رُبُط "، وهي التي ترتبط، يقال منه : رَبَطَ يَرْبط ربطاً، وارتبط يرتبط ارتباطاً ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدو " قال :[الكامل] ٢٧٢٨ - أمَرَ الإلهُ بربْطِهَا لعَدُوِّهِ
في الحَرْبِ إنَّ اللَّهَ خَيْرُ مُوفِّقِ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٥١
روي أنَّ رجلاً قال لابن سيرين : إنَّ فلاناً أوْصَى بثلثِ ماله للحصون، فقال : هي للخيل ؛ ألم تسمع قول الشاعر :[الكامل] ٢٧٢٩ - ولَقَدْ علِمْتُ عَلَى تَجَنُّبِيَ الرَّدَى
أنَّ الحُصُونَ الخَيْلُ لا مَدَرُ القُرَى
قال عكرمة :" رباط الخَيْلِ : الإناث " وهو قول الفرَّاء ؛ لأنها اولى ما يربط لتناسها ونمائها، ذكرهُ الواحديُّ.
ولقائل أن يقول : بل حمل اللَّفظ على الفُحُولِ أولى ؛ لأنَّ المقصود برباط الخَيْلِ المحاربة عليها، والفحول أقوى على الكر والفر والعدو، فوجب تخصيص هذا اللفظ بها.
ولمَّا تعارض هذان الوجهان وجب حمل اللفظ على مفهومه الأصلي، وهو كونه خيلاً مربوطاً سواء كانت فحولاً أو إناثاً.
٥٥٣