يعني : أنَّ الظَّرفية هنا مجازية، لأنَّ " دون " لا بد أن تكون ظرفاً حقيقة، أو مجازاً.
قوله ﴿لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ في هذه الآية قولان : أحدهما : أنَّ " علم " هنا متعدِّيةٌ لواحدٍ ؛ لأنها بمعنى " عرف "، ولذلك تعدَّت لواحد.
والثاني : أنَّها على بابها، فتتعدى لاثنين، والثاني محذوفٌ، أي : لا تعلمونهم فازعين، أو محاربين.
ولا بُدَّ هنا من التَّنبيه على شيءٍ، وهو أنَّ هذين القولين لا يجوز أن يكونا في قوله " اللَّهُ يَعْلمُهُم " بل يجب أن يقال : إنَّها المتعدية إلى اثنين، وأنَّ ثانيهما محذوف، لما تقدَّم من الفرق بين العِلْم والمعرفة.
منها : أنَّ المعرفة تستدعي سَبْقَ جهل، ومنها : أن متعلقها الذوات دون النسب، وقد نصَّ العلماءُ على أنهُ لا يجوزُ أن يطلق ذلك - أعني الوصف بالمعرفةِ - على اللَّهِ تعالى.
فصل قوله تعالى :﴿وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ﴾.
قال الحسن وابن زيد :" هم المُنافقون ".
" لا تعلمُونَهم " ؛ لأنهم معكم يقولون : لا إله إلا الله وقال مجاهدٌ ومقاتل :" هم بنُو قريظة " وقال السديُّ :" هم أهل فارس ".
وروي ابنُ جريجٍ عن سلمان بن موسى قال : هم كُفَّارُ الجِن، لما روي " أن النبي ﷺ قرأ :﴿وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ﴾ فقال : إنَّهم الجنُّ، ثم قال :" إنَّ الشَّيطانَ لا يُخَبِّل أحداً في دار فيها فرس حبيس " وعن الحسنِ : أنه قال :" صهيلُ الفرس يرهب الجن " وقيل : المرادُ العدو من المسلمين، فكما أنَّ المسلم يعاديه الكافر، فقد يعاديه المسلم أيضاً.
ثم قال تعالى :﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فهذا عام في الجهادِ وفي سائر وجوه الخيرات :" يُوفَّ إليْكُم ".
٥٥٦
قال ابنُ عبَّاسٍ :" يُوفَّ لكُم أجره " أي : لا يضيع في الآخرة أجره ؛ ﴿وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ أي : لا تنقصون من الثَّواب.
ولما ذكر ابن عباس هذا التفسير تلا قوه تعالى ﴿آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً﴾ [الكهف : ٣٣].
قوله تعالى :﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ الآية.
لمَّا بيَّن ما يهرب به العدو من القوة، بيَّن بعده أنَّهم عند هذا الإرهاب إذا مالوا إلى المصالحة، فالحكمُ قبولُ المصالحِة، والجنوحُ : المَيْلُ، وجَنَحَتِ الإبلُ : أمالت أعناقها ؛ قال ذو الرُّمَّةِ :[الطويل] ٢٧٣١ - إذَا مَاتَ فوقَ الرَّحْلِ أحْيَيْتِ رُوحَهُ
بِذكْراكِ والعِيسُ المَراسِيلُ جُنَّحُ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٥١
يقال : جَنَحَ اللَّيْلأُ : أقْبَلَ.
قال النضرُ بن شميلٍ :" جنح الرَّجلُ إلى فلانٍ، ولفلان : إذا خضع له " والجُنُوح الاتِّباع أيضاً لِتضمُّنه الميل ؛ قال النَّابغة - يصفُ طيراً يتبع الجيش :[الطويل] ٢٧٣٢ - جَوَانِحُ قَدْ أيْقَنَّ أنَّ قبيلهُ
إذا ما التقَى الجَمْعَانِ أوَّلُ غَالِب
ومنه " الجَوانِحُ " للأضلاع، لميلها على حشو الشخص، والجناحث من ذلك، لميلانه على الطَّائر، وقد تقدَّم الكلامُ على بعض هذه المادة في البقرة.
قوله " لِلسَّلْمِ " تقدَّم الكلام على " السلم " في البقرة، وقرأ أبو بكر عن عاصم هنا بكسر السين، وكَذا في القتال :﴿وَتَدْعُوا ااْ إِلَى السَّلْمِ﴾ [محمد : ٣٥]، ووافقه حمزة ما في القتال و " لِلسَّلْم " متعلق بـ " جَنَحُوا.
فقيل : يتعدَّى بها، وبـ " إلى ".
وقيل : هنا بمعنى " إلى ".
وقرأ الأشهبُ العقيليُّ :" فاجْنُحْ " بضمِّ النُّون، وهي لغة قيس، والفتح لغة تميم.
والضمير في " لها " يعود على " السلم " ؛ لأنَّها تذكَّرُ وتُؤنث ؛ ومن التَّأنيث قوله [المتقارب].
٥٥٧
٢٧٣٣ - وأقْنَيْتُ لِلْحربِ آلاتِهَا
وأعْدَدْتُ للسِّلْمِ أوزارَها
وقال آخر :[البسيط] ٢٧٣٤ - السِّلْمُ تأخُذُ مِنْهَا ما رضيتَ بِهِ
والحَرْبُ يَكْفيكَ منْ أنْفَاسِهَا جُرَعُ