وقيل : أثبت الهاء في " لها " ؛ لأنَّهُ قصد بها الفعلة والجنحة، كقوله :﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأعراف : ١٥٣] أراد : من بعد فعلتهم.
وقال الزمخشريُّ :" السِّلْمُ تُؤنَّث تأنيث نقيضها، وهي الحربُ ".
وأنشد البيت المتقدم : السِّلم تأخذ منها.
فصل قال الحسنُ وقتادةُ : هذه الآية نسخت بقوله :﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة : ٥].
وقوله ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة : ٢٩].
وقال غيرهما : ليست منسوخة ؛ لكنها تتضمَّنُ الأمر بالصُّلح إذا كان الصلاح فيه، فذا رأى مصالحتهم، فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة وإن كانت القوة للمشركين جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا يجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله ﷺ، فإنه هادن أهل مكَّة عشر سنين، ثم إنهم نقضُوا العهد قبل كمال المُدَّة.
وقوله ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ أي : فوِّض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله.
﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ نبَّه بذلك على الزَّجر عن نقض العهد ؛ لأنَّهُ عالم بما يضمير العبد سميع لما يقوله.
قال مجاهدٌ :" نزلت في قريظة والنضير " وورودها فيهم لا يمنع من إجرائها على ظاهر عمومها.
قوله تعالى ﴿وَإِن يُرِيدُوا ااْ أَن يَخْدَعُوكَ﴾ الآية.
أي : يريدوا ان يغدروا ويمكروا بك.
قال مجاهدٌ : يعني : بني قريظة ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ أي : بالأنصارِ.
فإن قيل : لما قال :﴿هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ﴾ فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين، حتَّى قال " وبالمؤمنين ".
٥٥٨
فالجوابُ : أنَّ التَّأييدَ ليس إلا من الله، لكنه على قسمين : أحدهما : ما يحصل من غير واسطة أسباب معتادة.
والثاني : ما يحصلُ بواسطة أسباب معتادة.
فالأول : هو المراد بقوله :" أيَّدكَ بنصْرِهِ ".
والثاني : هو المرادُ بقوله :" وبالمؤمنين ".
ثم بيَّن كيف أيد بالمؤمنين فقال ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ أي : بين الأوس والخزرج، كانت بينهم إحن وخصومات، ومحاربة في الجاهليَّة، فصيَّرهم الله إخواناً بعد أن كانوا أعداءً، وتبدلت العداوة بالمحبة القوية، والمخالصة التَّامة، ممَّا لا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى.
﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي : قادر قاهر، يمكنه التصرف في القلوب، ويقلبها من العداوة إلى الصداقة ومن النفرة إلى الرغبة، حكيم يقول ما يقوله على وجه الإحكام والإتقان، أو مطابقاً للمصلحة والصَّواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر.
فصل احتجوا بهذه الآية على أن أحوال القلوب من العقائد، والإرادات كلها من خلق الله تعالى ؛ لأن تلك الألفة، والمودة، إنَّما حصلت بسب الإيمان ومتابعة الرسول - عليه الصلاة والسلام - فلو كان الإيمانُ فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى، لكانت المحبَّة المترتبة عليه فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى، وذلك خلاف صريح الآية.
فقال القاضي :" لَوْلاَ ألطافُ الله تعالى ساعةً فساعةً، لما حصلت هذه الأحوال، فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى بهذا التَّأويل، كما يضافُ علم الولد وأدبه إلى أبيه، لأجل أنَّه لم يحصل ذلك إلاَّ بمعونة الأبِ وتربيته، فكذا ههنا ".
وأجيب : بأن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر، وحمل الكلام على المجاز، وأيضاً فكل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكُفار، مثل حصولها في حقِّ المؤمنين، فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف ؛ لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة، وأيضاً فالبرهانُ العقلي مقوٍّ لهذا الظَّاهر ؛ أن القلب يصح أن يصير موصوفاً بالرَّغْبَةِ بدلاً عن النُّفرة والعكس.
فرجحان أحدِ الطَّرفين على الآخر لا بدَّ له من مرجِّح، فإن كان المرجح هو العبدُ عاد التقسيم وإن كان هو الله تعالى، فهو المقصود.
فعلم أنَّ صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي، فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي.
٥٥٩
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٥١