قوله تعالى :﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾ الآية.
لمَّا وعده بالنَّصر عند مخادعة الأعداء، وعده بالنَّصر والظفر في هذه الآية مطلقاً، وعلى هذا التقرير لا يلزمِ منه التكرار، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، والمرادُ بقوله ﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الأنصار.
وعن ابنِ عبَّاسٍ :" نزلت في إسلامِ عُمر ".
قال سعيدُ بن جبير :" أسلم مع النَّبي ﷺ ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة، ثم أسلم عمر، فنزلت هذه الآية ".
قال المفسِّرُون : فعلى هذا القول هذه الآية مكية، [كتبت في] سورة مدنية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله " ومن اتَّبعكَ " فيه أوجهٌ.
أحدها : أن يكون " مَنْ " مرفوع المحلِّ، عطفاً على الجلالة، أي : يكفيك الله والمؤمنون.
وبهذا فسّره الحسن البصري وجماعة وهو الظاهر ولا محذور في ذلك حيث المعنى.
فإن قالوا : من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله، أو ينقص بسبب نصرة غير الله، وأيضاً إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أنَّ الواحدَ من ذلك المجموع لا يكفي في حصولِ ذلك المهم وتعالى الله عنه.
ويجابُ : بأنَّ الكُلَّ من اللَّهِ، إلاَّ أنَّ من أنواع النُّصرة ما يحصل بناء على الأسباب المألوفةِ المعتادةِ، ومنها ما يحصلُ لا بناءً على الأسباب المألوفة المعتادة ؛ فلهذا الفرق اعتبر نصر المؤمنين، وإن كان بعضُ الناس استصعب كون المؤمنين يكونون كافين النبي ﷺ وتأوَّل الآية على ما سنذكره.
٥٦٠
الثاني : أنَّ " مَنْ " مجرورُ المحلِّ، عطفاً على الكافِ في :" حَسْبُكَ "، وهذا رأي الكوفيين وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد، قالا :" معناه : وحسبُ من اتَّبعك ".
الثالث : أنَّ محلَّه نصبٌ على المعيَّة.
قال الزمخشري :" ومنِ اتَّبعكَ " الواو بمعنى " مع " وما بعدهُ منصوبٌ، تقول : حَسْبُكَ وزَيْداً درهمٌ، ولا تَجُرُّ ؛ لأنَّ عطف الظّاهر المجرور على المكنيّ ممتنعٌ ؛ وقال :[الطويل] ٢٧٣٥ -
.........................
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٦٠
فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ
والمعنى : كَفَاك وكَفَى تُبَّاعكَ المؤمنين اللَّه ناصراً.
قال أبو حيَّان :" وهذا مخالفٌ لكلام سيبويه ؛ فإنَّه قال " حَسْبُك وزَيْداً درهم " لمَّا كان فيه معنى : كفاك، وقبُحَ أن يحملوه على الضمير دون الفعل، كأنَّهُ قال : حسبك وبحسبِ أخاك " ثم قال :" وفي ذلك الفعل المضمير ضميرٌ يعودُ على الدرهم والنيةُبالدرهم التقديمُ، فيكون من عطف الجمل، ولا يجوزُ أن يكون من باب الإعمال، لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل، أو ما جرى مجراه، ولا عمله فلا يُتوهَّم ذلك فيه ".
وقد سبق الزمخشريَّ إلى كونه مفعولاً معه الزجاج، إلاَّ أنه جعل " حسب " اسم فعلٍ، فإنه قال :" حَسْبُ " اسمُ فعل، والكافُ نصبٌ، والواو بمعنى " مع ".
وعلى هذا يكون " اللَّهُ " فاعلاً، وعلى هذا التقدير يجوز في " ومَنْ " أن يكون معطوفاً على الكاف، لأنَّها مفعول باسم الفعل، لا مجرورٌ، لأنَّ اسم الفعل لا يُضاف.
ثم قال أبو حيان :" إلاَّ أنَّ مذهب الزجاج خطأٌ، لدخول العوامل على " حَسْب " نحو : بِحَسْبك درهم، وقال تعالى :﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾، ولم يثبت في موضع كونه اسم فعل، فيحمل هذا عليه ".
وقال ابنُ عطية - بعدما حكى عن الشعبي، وابن زيد ما تقدَّم عنهما من المعنى - : فـ " مَنْ " في هذا التأويل في محلِّ نصب، عطفاً على موضع الكاف ؛ لأنَّ موضعها نصبٌ على المعنى بـ :" يَكْفِيكَ " الذي سَدَّتْ " حسبك " مَسَدَّه.
قال أبو حيان " هذا ليس بجيد ؛ لأنَّ " حَسْبك " ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في
٥٦١
موضع نصب، بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب، و " حَسْبك " مبتدأ مضافٌ إلى الضمير وليس مصدراً، ولا اسم فاعل، إلاَّ إن قيل : إنَّه عطف على التوهم كأنه توهَّم أنه قيل : يكفيك الله، أو كفاك الله، لكن العطف على التوهُّم لا ينقاسُ ".
والذي ينبغي أن يحمل عليه كلامُ الشعبي وابن زيد أن تكون " مَنْ " مجرورة بـ " حَسْب " محذوفة، لدلالة " حَسْبك " عليها ؛ كقوله :[المتقارب] ٢٧٣٦ - أكُلَّ امرىءٍ تَححسَبينَ امْرَأً
ونارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا


الصفحة التالية
Icon