قوله :" حتَّى يُثخِنَ " قرأ العامَّةُ " يُثْخنَ " مخففاً، عدوهُ بالهمزة.
وقرأ أبُو جعفر ويحيى بن وثاب ويحيى بن يعمر " يُثَخِّنَ " بالتشديد، عدوهُ بالتضعيف، وهو مشتقٌّ من الثَّخانة، وهي الغِلَظ والكثافة في الأجسام، ثمَّ يُسْتَعار ذلك في كثرة لاقتل، والجراحات، فيقال : أثْخَنَتْه الجراح، أي : أثقلته حتى أثْبَتَتْه، ومنه " حتَّى إذا أثخنتموهم ".
وقيل : حتى يقهر، والإثخان : القهرُ.
وأنشد المفضلُ :[الطويل] ٢٧٣٨ - تُصَلِّي الضُّحَى ما دَهْرُهَا بتَعَبُّدٍ
وقَدْ أثْخَنَتْ فرعَونَ في كُفُرِهِ كُفْرَا
كذا أنشده الهروي شاهداً على القهر، وليس فيه معنى، إذا المعنى على الزِّيادة والمبالغةِ المناسبةِ لأصل معناه، وهي الثَّخانة.
ويقال منه : ثَخُنَ يَثْخُنُ ثَخَانَة فهو ثَخِين، كـ : ظَرُفَ يَظْرُف ظَرَافَةً، فهو ظريفٌ.
قوله ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾.
الجمهورعلى نصب " الآخرة ".
وقرأ سليمانُ بن جماز المدني بجرِّها، وخُرِّجتْ على حفِّ المضاف وإبقاء المضاف إليه على جرِّه.
وقدَّره بعضهم عرض الآخرة، فعيب عليه ؛ إذْ لا يحسن أن يقال : والله يريد عرض الآخرة فأصلحه الزمخشريُّ بأنْ جعلهُ كذلك ؛ لأجل المقابلة، قال :" يعني ثوابها " وقدَّره بعضهم بـ " أعمال "، أو " ثواب "، وجعله أبُو البقاءِ كقول الآخر :[المتقارب] ٢٧٣٩ -.....................
ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٦٨
وقدَّر المضاف :" عَرَضَ الآخِرَةِ ".
قال أبُو حيان :" ليست الأيةُ مثل البيت، فإنهُ يجوزُ ذلك، إذَا لمْ يُفْصل بين حرف العطف وبين المجرور بشيء كالبيت، أو يفصل بـ " لا " نحو :" ما مثل زيد ولا أخيه يقولان لك " أمَّا إذَا فُصِل بغيرها كهذه القراءةِ فهو شاذٌّ قليل ".
فصل اعلم أنه تعالى علم في هذه الاية حكما آخر من أحكام الجهاد في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
٥٦٩
قال الزجاج :" أسْرَى " جمع، و " أسَارَى " جمع الجمع.
والإثخان : قال الواحديُّ :" الإثخان " في كُلِّ شيء : عبارة عن قوَّته وشدَّته.
يقال : قد أثخنه المرض : إذا اشتد قوة المرض عليه وكذلك أثخنته الجراح.
فقوله :﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ أي : حتى يقوى ويشتد ويغلب ويقهر.
قال أكثر المفسرين : المرادُ منه : أين يبالغ في قتل أعدائه، قالوا : وإنَّما جعلنا اللَّفظ يدل عليه ؛ لأنَّ الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل ؛ قال الشَّاعرُ : ٢٧٤٠ - لا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفيعُ من الأذَى
حتَّى يُراقَ على جوانبِهِ الدَّمُ
وكثرة القتل توجب قوة الرهب وشدة المهابة، وكلمة " حتّى " لانتهاء الغايةِ، فقوله ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ يدُلُّ على أنَّ بعد حصول الإثخان في الأرض فله أن يقدم على الأسارى.
وقوله :﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ المرادُ منه : الفداء، وإنّضما سمى منافع الدنيا عرضاً ؛ لأنَّهُ لا ثبات له ولا دوام، فكأنه يعرض ثم يزول، ولذلك سمَّى المتكلمون الأعراض أعراضاً، لأنها لا ثبات لها كثبات الأجسام ؛ لأنها تطرأ على الأجسام، وتزول عنها والأجسام باقية.
وقوله :﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ أي : أنه تعالى لا يريدُ ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول، وإنَّما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الدائمة الباقية المصونة عن التبدل والزوال.
ثم قال :﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي : إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم ؛ لأنَّ الله عزيز لا يقهر ولا يغلب، حكيم في تدبير مصالح العالم.
قال ابنُ عبَّاسٍ :" هذا الحكم إنَّما كان يوم بدر ؛ لأنَّ المسلمين كانوا قليلين، فلما كثروا وقوي سلطانهم أنزل اللَّهُ بعد ذلك في الأسارى :﴿حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾ [محمد : ٤].
قال ابنُ الخطيبِ :" هذا الكلامُ يوهم أنَّ قوله :﴿فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾ يزيدُ على حكم الآية التي نحن في تفسيرها، وليس الأمر كذلك ؛ لأنَّ كلتا الآيتين متوافقتان، فإنهما يدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان، ثم بعده أخذ الفداء ".
فصل احتج الجبائيُّ والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول : كلُّ ما يكون من العبد
٥٧٠