الله ﷺ عشيَّة عرفة، فقال :" أمَّا بعدُ فإنَّ هذا يوم الحج الأكبر " لأنَّ معظم أفعال الحج فيه، وروي أنَّ النبي ﷺ وقف يوم النَّحر عند الجمرات، وقال :" هذا يومُ الحج الأكبر " وقال عليه الصلاة والسلام " الحج عرفةُ " ولأنَّ أعظم أعمال الحج الوقوف بعرفة ؛ لأ، َّ من أدركه، فقد أدرك الحجَّ، ومن فاته فقد فاته الحجُّ.
وقال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء يوم الحج الأكبر : يوم النحر، وهو قول النخعيّ، والشعبيّ، والسديّ، وإحدى الروايتين عن عليٍّ، وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير.
وروى ابن جريج عن مجاهد أنه قال : يوم الحجِّ الأكبر أيَّام منى كلها، وهو مذهب سفيان الثَّوريّ، وكان يقول : يوم الحجِّ الأكبر : أيامه كلها، كما يقال : يوم صفين، ويوم الجمل، ويراد به الحين والزمان.
وأما تسيمته بيوم الحج الأكبر، فإن قلنا : إنَّه يوم عرفة ؛ فلأنه أعظم واجباته، ومن فاته الحجُّ، وكذلك إن قلنا : إنَّه يوم النحر، لأن معظم أفعال الحج يفعل فيه، وقال الحسنُ : سُمِّيَ بذلك لاجتماعِ المسلمين والمشركين فيه، وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمنٍ وكافر، وطعن الأصم في هذا الوجه وقال : عيدُ الكفَّارِ فيه سخط.
وهذا الطَّعن ضعيفٌ ؛ لأنَّ المرادَ أنَّ ذلك اليوم استعظمه جميع الطوائف، فلذلك وصف بالأكبر.
وقيل سُمِّي بذلك ؛ لأن المسلمين والمشركين حَجُّوا في تلك السَّنة، وقيل : الأكبرُ الوقوف بعرفة والأصغر النَّحر، قاله مجاهدٌ، ونقل عن مجاهدٍ : الأكبر القرانُ، والأصغر الإفراد، فإن قيل : قوله :﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وقوله ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ لا فرق بينهما، فما فائدة هذا التكرار ؟ فالجواب من وجوه : الأولُ : أنَّ المقصودَ من الأوَّلِ البراءة من العهد، ومن الثاني : البراءة التي هي
١٤
نقيض الموالاة، ويدلُّ على هذا الفرقِ في البراءة الأولى برىء إليهم، وفي الثانية برئ منهم.
الثاني : أنَّهُ تعالى في الكلام الأوَّل، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد، وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معيّن، تنبيهاً على أنَّ الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم.
قوله " فإن تُبْتُمْ " عن الشكر، وأخلصتم التَّوحيدَ :﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرضتم عن الإيمان ﴿فَاعْلَمُوا ااْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ وذلك وعيد عظيم.
ثم قال ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ في الآخرة، والبشارةُ - ههنا - وردت على سبيل الاستهزاء كما يقال : تحيتهم الضرب، وإكرامهم الشَّتم.
قوله ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ في هذا الاستثناء ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّه استثناءٌ منقطعٌ، والتقديرُ : لكن الذين عاهدتم فأتمُّوا إليهم عهدهم، وإلى هذا نحا الزَّمخشري، فإنه قال :" فإن قلت : ممَّا استثنى قوله :" إلاَّ الذينَ عاهَدتُّم " ؟ قلت : وجهه أن يكون مستثنى من قوله :" فسيحُوا في الأرضِ " ؛ لأنَّ الكلام خطابٌ للمسلمين ومعناه : براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم : سِيحُوا إلاَّ الذين عاهدتم منهم، ثُمَّ لَمْ ينقصوا فأتموا إليهم عهدهم، والاستثناءُ بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أمروا في النَّاكثين، ولكن الذين لم ينكثوا، فأتمُّوا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم.
الثاني : أنَّه استثناءٌ متصلٌ، وقبلهُ جملةٌ محذوفة، تقديره : اقتلوا المشركين المعاهدين إلاَّ الذين عاهدتم، وفيه ضعفٌ ؛ قاله الزَّجَّاجُ، فإنَّه قال :" إنَّه عائد إلى قوله :" براءةٌ " والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلاَّ الذين لم ينقضوا العهد ".
الثالث : أنَّه مبتدأ، والخبر قوله :" فأتمُّوا إليهِمْ " قاله أبو البقاءِ، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ الفاء تزاد في غير موضعها، إذ المبتدأ لا يشبه الشَّرط ؛ لأنَّه لأناسٍ بأعيانهم، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش، إذ يُجوِّز زيادتها مطلقاً، والأولى أنَّهُ منقطعٌ، لأنَّا لو جعلناهُ متصلاً مستثنى من المشركين في أوَّل السُّورة، لأدَّى إلى الفصل بين المستثنى، والمستثنى منه بجملٍ كثيرة.
قوله ﴿ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً﴾ الجمهور " يَنقصُوكُم " بالصَّاد المهملة، وهو يتعدَّى لواحدٍ، ولاثنين، ويجوزُ ذلك فيه هنا فـ " كُمْ " مفعولٌ أول، و " شَيْئاً " إمَّا معفول ثان، وإمَّا مصدرٌ، أي : شيئاً من النقصان، أو : لا قليلاً، ولا كثيراً من النقصان.
١٥