وقرأ عطاءُ بن السائب الكوفي وعكرمة، وابن السَّمَيْفع، وأبو زيد " يَنقُضُوكم " بالضَّاد المعجمة وهي على حذف مضاف، أي : ينقضُوا عهدكم، فحذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه.
قال الكرمانيُّ :" وهي مناسبة لذكر العهد ".
أي : إنَّ النقضَ يُطابق العهد، وهي قريبة من قراءة العامَّة، فإنَّ من نقض العهد فقد نقص من المدة، إلاَّ أنَّ قراءة العامة أوقعُ لمقابلها التمام.
فصل ومعنى قوله :﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وهم بنو ضمرة حي من كنانة، أمر الله ورسوله بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشعر وكان السَّبب فيه أنهم لم ينقضوا، أي : لم ينقضوا شيئاً من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه، " ولمْ يُظاهِرُوا " لم يعامونا " عَليكُمْ أحَداً " من عدوكم، " فأتمُّوا إليهم عهدَهُم " الذي عاهدتموهم عليه، أي : أوفوقا بعهدهم :" إلى مُدتِهِم " إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه " إنَّ الله يحبُّ المُتَّقِينَ " أي : إنَّ هذه الطائفة لما اتقوا النقض، ونكث العهد، استحقوا من اللهِ أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٦
قوله تعالى :﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ الآية.
قال الليثُ " يقال سلختُ الشهر : إذا خرجت منه ".
و " الانسلاخُ " هنا من أحسن الاستعارات، وقد بيَّن ذلك أبو الهيثم، فقال :" يقال : أهْللنا شهر كذا، أي : دخلنا فيه، فنحنُ نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفه لباساً، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ " ؛ وأنشد :[الطويل] ٢٧٤٤ - إذا مَا سَلخْتُ الشَّهْرَ أهلَلتُ مِثلهُ
كَفَى قَاتِلاً سَلْخِي الشُّهُورَ وإهْلالِي
١٦
والألف واللام في " الأشهر " يجوز أن تكون للعهد، والمراد بها : الأشهرُ المتقدمة في قوله :﴿فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ [التوبة : ٢]، والعربُ إذا ذكرت نكرة، ثم أرادت ذكرها ثانياً أتت بضميره ؛ أو بلفظه مُعرَّفاً بـ " أل "، ولا يجوز حينئذ أن نصفهُ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة، فلو قيل :" رأيت رجلاً، فأكرمتُ الرَّجل الطَّويل " لمْ تُرد بالثَّاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز، كقولك : فأكرمت الرجل المذكور، ومنه هذه الآية، فإنَّ " الأشهر " قد وصفت بـ " الحُرُم "، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة، ويجوزُ أن يراد بها غيرُ الأشهر المتقدمة، فلا تكون " أل " للعهد وقد ذكر المفسرون الوجهين.
قالوا : المرادُ بالأشهر الحرم : الأربعة، رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وقال مجاهدٌ وابن إسحاق :" هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوماً ".
وقيل لها حرم : لأنَّ الله حرَّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتَّعرض لهم.
فإن قيل : هذا القدر بعض الأشهر الحرم، واللهُ تعالى يقول :﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾.
قيل : لمَّا كان القدر متصلاً بما مضى أطلق عليه اسم الجمع، ومعناه : مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم.
قوله ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾.
اعلم أنَّه تعالى أمر بعد انقضاءِ الأشهر الحرم بأربعة أشياء : أولها : قوله :﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي : على الإطلاق في أي وقت كان في الحل أو الحرمِ.
وثانيها :" وَخُذُوهُمْ " أي : أسروهم.
وثالثها :" وَاحْصُرُوهُمْ " والحصر : المنع، أي : امنعوهم من الخروج إن تحصنوا، قاله ابن عباس.
وقال الفرَّاءُ " امنعوهم من دخول مكَّة والتَّصرف في بلاد الشام ".
ورابعها : قوله ﴿وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾.
في انتصاب " كل " وجهان : أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرف المكاني.
قال الزجاج " نحو : ذهبت مذهباً ".
وردَّ عليه الفارسيُّ هذا القول من حيث إنَّه ظرف مكان مختص، والمكانُ المختصُّ لا يصلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة ؛ في نحو : صَلَّيْتُ في الطريق وفي البيت، ولا يصل بنفسه إلاَّ في ألفاظٍ محصورةٍ بعضها ينقاس،
١٧
وبعضها يسمع، وجعل هذا نظير ما فعل سيبويه في بيت ساعدة :[الكامل] ٢٧٤٥ - لَدْنٌ بِهزِّ الكفِّ يعْسِلُ متنهُ
فيهِ كما عسل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ١٦