جزء : ١٠ رقم الصفحة : ١٦
قوله تعالى :﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ الآية.
المستفهمُ عند محذوفٌ، لدلالة المعنى عليه، فقدَّره أبو البقاءِ " كيف تَطْمئنون، أو كيف يكونُ لهم عهدٌ " ؟ وقدَّره غيره : كيف لا تقاتلونهم ؟.
والتقدير الثاني مِنْ تقديري أبي البقاء أحسنُ ؛ لأنَّه من جنس ما تقدَّم، فالدلالةُ عليه أقْوى.
وقد جاء الحذفُ في هذا التركيب كثيراً، وتقدَّم منه قوله تعالى :﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ [آل عمران : ٢٥]، ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا﴾ [النساء : ٤١] ؛ وقال الشاعر :[الطويل] ٢٧٥٢ - وخَبَّرْتُمَاني أنَّما الموتُ في القُرَى
فكيْفَ وهاتا هَضْبَةٌ وكَثِيبُ
أي : كيف مات ؟ وقال الحطيئةُ :[الطويل] ٢٧٥٣ - فَكيْفَ ولمْ أعلمْهُم خَذلُوكُمُ
علَى مُعظمٍ ولا أديمَكُمُ قدُّوا
أي : كيف تلومونني في مدحهم ؟ قال أبُو حيَّان :" وقدَّر أبو البقاءِ الفعل بعد " كيف " بقوله :" كيف تطمئنون "، وقدَّره غيره بـ " كيف لا تقاتلونهم " ؟.
قال شهابُ الدِّين :" ولم يقدره أبُو البقاء بهذا وحده، بل به، وبالوجه المختار كما تقدَّم منه ".
قوله " كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا " " كيف " تكرار، لاستبعاد ثبات المشركينَ على العهد، وحذف الفعل، لكونه معلوماً، أي : كيف يكون لهم عهد وحالهم أنَّهُمْ إن يظهروا عليكم
٢٤
بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولا يبقوا عليكم.
والجملة الشرطية من قوله :" إِن يَظْهَرُوا " في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي : كيف يكونُ لهم عهدٌ، وهم على حالةٍ تنافي ذلك ؟ وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله :﴿وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾ [الأعراف : ١٦٩]، و " لا يرْقُبوا " جوابُ الشرط، وقرأ زيد بن علي :" وإن يُظهَرُوا " ببنائه للمفعول، من أظهره عليه، أي : جعله غالباً له، يقال : ظهرت على فلان : إذا علوته، وظهرت على السطح : إذا صرت فوقه.
قال اللَّيْثُ :" الظُّهور : الظَّفر بالشَّيء، وأظهر اللهُ المسلمين على المشركين، أي : أعلاهُم عليهم ".
قال تعالى :﴿فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ﴾ [الصف : ١٤] وقوله :﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة : ٣٣] أي : ليعليه.
قوله :" لاَ يَرْقُبُواْ " قال الليثُ " رقبَ الإنسانَ يرقبُ رقْبةً ورِقْبَاناً، هو أن ينتظره ".
والمعنى : لا ينتظروا، قاله الضحاكُ، ورقيب القوم : حارسهم، وقوله :﴿وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه : ٩٤] أي : لم تحفظه.
وقال قطربٌ :" لا يراعوا فيكم إلاَّ ".
قوله :" إلاًّ " مفعولُ به بـ " يَرْقُبُوا ".
وفي " الإِلِّ " أقوالٌ ".
أحدها : أنَّ المراد به العهد، قاله أبو عبيدة، وابن زيد، والسديُّ وكذلك الذمة، إلاَّ أنه كرر، لاختلاف اللفظين ؛ ومنه قول الشاعر :[البسيط] ٢٧٥٤ - لَوْلاَ بنُو مالكٍ، والإِلُّ مَرْقبةٌ
ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٤
أي : الحِلْف ؛ وقال آخر :[المتقارب] ٢٧٥٥ - وجَدْناهُمُ كَاذِباً إلُّهُمْ
وذُو الإِلِّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ
وقال آخر :[الرمل] ٢٧٥٦ - أفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا
قَطَعُوا الإِلَّ وأعْرَاقَ الرَّحِمْ
وفي حديث أمِّ زرع بنت أبي زرع :" وفيُّ الإلِّ، كريمُ الخِلِّ، بَرُودُ الظِّلِّ " أي ؛ وفَيُّ العهد.
٢٥
الثاني : أنه القرابةُ، قاله ابنُ عبَّاسٍ والضحاك، وبه قال الفراء وأنشدوا لحسان :[الوافر] ٢٧٥٧ - لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُريشٍ
كإِلِّ السَّقْبِ من رَألِ النَّعَامِ
وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله :[الرمل] ٢٧٥٨ -.........................
قَطَعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ
والظَّاهر أنَّ المراد به العهد - كما تقدَّم - لئلاَّ يلزم التكرار.
الثالث : أنَّ المراد به الله - تعالى - أي : هو اسم من أسمائه، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عرض عليه كلام مُسَيْلمة - لعنه الله - " إنَّ هذا الكلام لم يخرج من إلّ "، أي : الله - عز وجل - قاله أبو مجْلزٍ، ومجاهد وقال عبيد بن عمير : يُقرأ جِبْرَئل بالتشديد، يعني عبد الله ولم يرتض هذا الزجاج، قال :" لأنَّ أسماءه - تعالى - معروفة في الكتابِ والسُّنَّةِ - ولم يُسمَعْ أحدٌ يقول : يا إلُّ، افعلْ لي كذا ".
الرابع : أنَّ :" الإلَّ " الجُؤار، وهو رفعُ الصَّوت عند التحالُف، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا، وتحالفوا، جأرُوا بذلك جُؤاراً.
ومنه قول أبي جهل :[الطويل] ٢٧٥٩ - لإلِّ عَليْنَا واجب لا نُضيعُهُ
مَتِينٍ قُوَاهُ غَيْرِ مُنْتكِثِ الحَبْلِ


الصفحة التالية
Icon