فإن قيل : لمَّا أخبرتم بأنَّ هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين، فكيف قال في وصفهم :" أعْظَمُ دَرَجَةً " ؟.
فالجوابُ من وجوه : الأول : أن هذا ورد على ما قدَّرُوا لأنفسهم من الدَّرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله تعالى :﴿ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل : ٥٩]، وقوله ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ [الصافات : ٦٣].
الثاني : أنَّ المراد : أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات، تنبيهاص على أنَّهم لمَّا كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى.
الثالث : أن المراد، أنَّ المؤمن المُهاجِرَ المجاهد أفضل ممَّن على السقاية والعمارة، والمراد منه : ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال، ولا شك أنَّ السِّقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنَّما بطل ثوابها في حقِّ الكفار ؛ لأن الكفر منع من ظهور ذلك الأثر، ثُم بيَّن تعالى أنهم :" هُمُ الفائِزُون " وهذا للحصر، والمعنى : أنهم هم الفائزون بالدرجة العلية المشار إليها بقوله :" عِنْدَ اللهِ " وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان.
وقد تقدَّم اختلاف القراء في :" يُبَشِّرهُم " وتوجيه ذلك في " آل عمران " وكذلك في الخلاف في ﴿وَرِضْوَانٌ﴾ [آل عمران : ١٥].
وقرأ الأعمش " رضُوان " بضمِّ الراء والضَّاد، وردَّها أبُو حاتم، وقال :" لا يجوز ".
وهذا غيرُ لازم للأعمش فإنه رواها، وقد وُجِد ذلك في لسان العرب، قالوا :" السُّلُطان " بضم السين واللام.
قوله ﴿لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملةُ صفةً لـ " جَنَّاتٍ " وأنْ تكون صفةً لـ " رَحْمَة " ؛ لأنَّهم جَوَّزُوا في هذه الهاء أن تعود للرَّحمة، وأنْ تعود للجنات، وجوَّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله :" يُبَشِّرهُمْ "، كأنَّه قيل : لهم في تلك البشرى.
وعلى هذا فتكونُ الجملةُ صفةً لذلك المصدرِ المقدَّرِ إن قدَّرْتَه نكرةً، وحالاً إن قدَّرْتَه معرفةً.
ويجوزُ أن يكون " نعيمٌ " فاعلاً بالجارِّ قبله، وهو أولى، لأنَّه يصير من قبيل الوصف بالمفرد، ويجوزُ أن يكون مبتدأ، وخبره الجار قبله، وقد تقدَّم تحقيق ذلك مراراً [الأنفال : ٧٢].
قوله :" خَالِدِينَ " حالٌ من الضمير في " لهم ".
واستدل أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الخلود يدلُّ على طول المكث، ولا يدل على التأبيد، قالوا : لأنَّهُ لو كان الخلود يفيد التَّأبيد، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخُلُود تكراراً، وإنه لا يجوز
٥٢
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٤٧
قوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوا ااْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ﴾ الآية.
والمقصود من هذه الآية : أن تكون جواباً عن شبهة أخرى، ذكروها في أن البراءة من الكافر غيرُ ممكنة، فإنَّ المسلم قد يكون أبوه كافراً أو ابنُه والكافر قد يكون أبوهُ أو أخوه مسلماً والمقاطعة بين الرَّجُلِ وأبيه وابنه وأخيه كالمتعذر، فأزال اللهُ تعالى هذه الشبهة بهذه الآية.
ونقل المفسِّرون عن ابنِ عبَّاسٍ " أنَّه تعالى لمَّا أمر المسلمين بالهجرةِ قبل فتح مكَّة، فمنْ لم يهاجر لم يقبل اللهُ إيمانه، حتى يجانب الآباء والأقرباء إن كانُوا كفاراً ".
قال ابنُ الخطيب " وهذا مشكل ؛ لأنَّ الصحيح أنَّ هذه السورة إنَّما نزلت بعد فتح مكة، فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه ؟ وإنَّما الأقربُ أنَّهُ تعالى أمر المؤمنين بالتبرِّي عن المشركين بسبب الكفر، لقوله :﴿إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ﴾ أي : اختاروا الكفر على الإيمان، والاستحباب : طلب المحبة، يقال استحب له، بمعنى : أحبه، كأنه طلب محبته ".
ولمَّا نهى الله عن مخالطتهم، وكان النَّهي يحتملُ أن يكُون نَهْيَ تنزيهٍ وأن يكون نهي تحريم، ذكر ما يزيل الشبهة فقال :﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
قال ابن عباسٍ " يريدُ : مشركاً مثلهم، لأنه رضي بكفرهم، والرَّضى بالكُفرِ كفر، كما أنّض الرضا بالفسقِ فسق ".
قال القاضي :" هذا النَّهي لا يمنعُ أن يتبرأ المرءُ من أبيه في الدُّنيا، كما لا يمنع من قضاء دين الكافرن ومن استعمله في الأعمال ".
قوله :﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ﴾ " آباؤكم " وما عطف عليه اسم " كان "، و " أحب " خبرها، فهو منصوبٌ، وكان الحجاجُ بنُ يوسف يقرها بالرفع، ولحَّنَه يحيى بن يعمر فنفاه.
قال أبو حيَّان " إنَّما لحَّنَه باعتبار مخالفةِ القراء النَّقلة، وإلاَّ فهي جائزةٌ في العربية، يُضمر في " كان " اسماً، وهو ضميرُ الشأن، ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر، وحينئذٍ تكونُ الجملة خبراً عن " كان ".
٥٣
قال شهاب الدِّين.
فيكون كقول الشاعر :[الطويل] ٢٧٧٢ - إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ شَامِتٌ
وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كُنتُ أصْنَعُ


الصفحة التالية
Icon