جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٥٣
وهذا في أحد تأويلي البيت.
والآخر : أنَّ " صنفان : خبرٌ منصوب، وجاء به على لغةِ بني الحارث، ومن وافقهم.
والحكاية التي أشار إليها الشَّيْخُ من تلحين يحيى للحجَّاج هي : أنَّ الحجاج كان يَدَّعي فصاحةً عظيمة، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه : هل تجدني ألحن ؟ فقال : الأميرُ أجَلُّ من ذلك، فقال : عَزمْتُ عليك إلاَّ ما أخبرتني، وكانوا يُعظِّمون عزائم الأمراء، فقال : نعم، فقال : في أي شيءٍ ؟ فقال : في القرآن، فقال : ويْلَك!! ذلك أقبحُ بي، في أيِّ آية ؟ قال : سَمعتُك تقر :﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ﴾ إلى أن انتهيت إلى " أحَبّ " فرفعتها، فقال : إذن لا تسمعني ألْحَنُ بعدها، فنفاهُ إلى " خراسان " فمكث بها مدةً، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فجاءهم جيش، فكتب إلى الحجاج كتاباً، وفيه :" وقد جاءنا العدوُّ فتركناهم بالحضيض، وصعدنا عُرعُرة الجبل "، فقال الحجاج : ما لابن المهلب ولهذا الكلام، فقيل له : إنَّ يحيى هناك، فقال : إذن ذاك.
وقرأ الجمهور " عَشيرَتُكُمْ " بالإفراد، وأبو بكر عن عاصم " عَشِيراتكم " جمع سلام.
[ووجه الجمع أنَّ لكلِّ من المخاطبين عشيرة، فحسن الجمع، وزعم الأخفشُ أنَّ " عشيرة " لا تجمع بالألف والتاء، وإنَّما تكسيراً على " عشائر "، وهذه القراءة حجةٌ عليه، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وأبي رجاء.
وقرأ الحسن " عَشائرُكُم " قيل : وهي أكثر مِنْ " عشيراتكم " ].
و " العَشِيرةُ " : هي : الأهلُ الأدنون.
وقيل : هم أهلُ الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم، أي : يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل، وذلك أنَّ العشيرة هي العددُ الكاملُ، فصارت العشيرةُ اسماً لأقارب الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم، سواءً بلغوا العشرة أم فوقها.
وقيل : هي الجماعةُ المجتمعة بنسبٍ، أو وداد، لعقد العشرة.

فصل هذه الآية هي تقريرُ الجواب المذكور في الآية الأولى، وذلك لأنَّ جماعة


٥٤
المؤمنين، قالوا : يا رسُول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكليَّة ؟ وهذه الآية توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا، وإن نحن فعلنا ذلك، ذهبت تجارتنا، وهلكت أموالنا، وخربت ديارنا، فأنزل الله تعالى :﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ﴾ أي : تَسْتوطنُونَها راضين بسكناها ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ﴾ فانتظروا ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾.
قال عطاءٌ :" بقضائه ".
وقال مجاهدٌ ومقاتلٌ :" بفتح مكَّة ".
وهذا أمر تهديد، فبيَّن تعالى أنَّه يجب تحمل جميع هذه المضارّ في الدُّنيا، ليبقى الدِّين سليماً.
ثم قال ﴿وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ أي : الخارجين عن الطاعةِ، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه إذا وقع التَّعارضُ بين مصلحةٍ واحدة من مصالح الدِّين، وبين مهمات الدُّنيا ؛ وجب ترجيح الدِّين على الدنيا.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٥٣
قوله تعالى :﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾ الآية.
لمَّا ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء، والإخوان، والعشيرة، وعن الأموال، والتجارات، والمساكن، رعاية لمصالح الدِّين، وعلم أنَّ ذلك يشقّ على النفوس، ذكر ما يدلُّ على أنَّ من ترك الدُّنيا لأجل الدِّين، فإنَّهُ تعالى يوصله مطلوبه.
وضرب لهذا مثلاً، وذلك أنَّ عسكر رسول الله ﷺ في وقعة حنين، كانوا في غاية الكثرةِ والقوَّةِ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم، صارُوا منهزمين، فلمَّا تَضَرَّعُوا في حال الانهزام إلى اللهِ تعالى قوَّاهم حتَّى هزموا عسكر الكُفَّارِ، وذلك يدلُّ على أنَّ الإنسان متى اعتمد على الدُّنيا، فاته الدِّين والدنيا، ومتى أطاع الله، ورجَّحَ الدِّين على الدُّنيا، آتاه اللهُ الدِّين
٥٥
والدُّنيا على أحسن الوُجوه فكان هذا تسلية لأولئك المأمورين بمقاطعة الآباءِ والأبناءِ، لأجل مصلحة الدِّين، وعداً لهم بأنهم إن فعلُوا ذلك أوصلهم اللهُ تعالى إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه.
قال الواحديُّ :" النّصر : المعونةُ على العدوِّ خاصة "، " المواطن " : جمع " مَوْطِن " بكسر العين، وكذا اسم مصدره، وزمانه، لاعتلال فائه كـ " المَوْعد "، قال :[الطويل] ٢٧٧٣ - وكَمْ مَوْطنٍ لوْلايَ طِحْتَ كَما هَوَى
بأجْرَامِهِ مِنْ قُنَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي
و " حُنَيْن " : اسمُ وادٍ بين مكة والطائف، فلذلك صرفه، وبعضهم جعله اسماً للبقعة، فمنعه في قوله :[الكامل] ٢٧٧٤ - نَصَرُوا نَبيَّهُمُ وشَدُّوا أزْرَهُ
بِحُنينَ يَوْمَ تواكُلِ الأبْطالِ


الصفحة التالية
Icon