صلى الله عليه وسلم قط، قال : رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب، والعباس آخذ بلجام دابته البيضاء وهو يقول :" أنَا النبيُّ لا كذِبْ، أنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب " وطفق يركضُ بغلته نحو الكفار، ثم قال للعبَّاس : نادِ المهاجرين والأنصار - وكان العباس رجلاً صَيِّتاً - فجعل يُنَادِيك يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرةِ، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً، وأخذ رسولُ الله ﷺ بيده كفاً من الحَصَى، فرماهم بها، وقال :" شَاهتِ الوُجوهُ " فما زال أمرهم مدبراً، وحدهم كليلاً حتى هزمهم اللهُ، ولم يبق منهم أحد يومئذ إلاَّ وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب، فذلك قوله :﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾.
والمراد بالسّكينة : ما يسكن إليه القلبُ، ويوجب الأمنة، ووجه الاستعارة فيه : أنَّ الإنسان إذا خاف فرَّ وفُؤاده متحرك، وإذا أمن ؛ سكن وثبت ؛ فلمَّا كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السَّكينة كناية عن الأمن.
ثم قال تعالى :﴿وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾ والمراد : أَنْزَلَ الملائِكة، وليس في هذه الآية ما يدلُّ على عدّة الملائكة، كما هو في قصة بدر، فقال سعيد بن جبير :" أيَّد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة " ولعله إنَّما قاسه على يوم بدر.
وقال سعيدُ بن المسيبِ : حدَّثني رجلٌ كان في المشركين يوم حنين قال : لمَّا كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلمَّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، تلقانا رجال بيض الوجوه، فقالوا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا، واختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم ؟ فالذي روي عن سعيد بن المسيب يدلُّ على أنهم قاتلوا، وقال آخرون : إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر، وفائدة نزولهم في هذا اليوم : هو إبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين.
ثم قال تعالى :﴿وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ والمرادُ من هذا التَّعذيب : قتلهم وأسرهم، وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق لله تعالى ؛ لأنَّ المراد من هذا التَّعذيب ليس إلا الأخذ والأسر، وقد نسب تلك الأشياء إلى نفسه.
قوله :﴿وَذالِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ﴾ تَمسَّك الحنفيَّةُ في مسألة الجلد مع التعزير بقوله ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ [النور : ٢] قالوا : الفاءُ تدلُّ على كون الجلد جزاء، والجزاء اسم للكافي، وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه، وأجيبوا بأن الجزاء ليس اسماً للكافي ؛ لأنه
٥٦
تعالى سمَّى هذا التعذيب جزاء مع أنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ العقوبة الدائمة في القيامة مُدَّخرة لهم، فدلت هذه الآية على أنَّ الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية.
قوله ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذالِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ﴾ أي : أنَّ الله تعالى مع كل ما جرى عليهم من الخذلان يتوب عليهم، بأن يزيل عن قلبهم الكفر، ويخلق فيه الإسلام، وقال القاضي : معناهُ : أنَّهُ بعد ما جرى عليهم ما جرى، إذا أسلمُوا وتابُوا فإنَّ الله يقبل توبتهم " وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ قوله :" ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ " ظاهره يَدُلُّ على أنَّ تلك التبوة إنَّما تحصل لهم من قبله تعالى، وتقدَّم الكلامُ على المعنى في البقرة عند قوله ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة : ٣٧] ثم قال :﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ أي : لمن تاب ﴿رَّحِيمٌ﴾ لِمَنْ آمن وعمل صالحاً.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٥٥
قوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا ااْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ الآية.
اعلم أنه عليه الصَّلاة والسَّلام، لمَّا أمر عليّاً أن يقرأ على مشركي مكَّة أول سورة براءة، وينبذ إليهم عهدهم، وأنَّ الله بريء من المشركين ورسلوه، قال أناس : يا أهل مكَّة ستعلمون ما تلقونه من الشِّدَّة لانقطاع السبل وفقد الحمولات ؛ فنزلت هذه الآية، لرفع الشُّبهةِ، وأجاب الله تعالى عنها بقوله :﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ أي : فَقْراً وحاجةً، ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ قال الأكثرون : لفظ المشركين يتناولُ عبدة الأوثانِ، وقال قومٌ : يتناولُ جميع الكُفَّارِ، وقد تقدم ذلك.
قال الضحاكُ وأبو عبيدةَ :" نَجَسٌ " قذر.
وقيل : خَبِيثٌ، وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى، والتثنية والجمع.
جعلوا نفس النَّجَس، على المبالغة، أو على حذفِ مضاف.
وقرأ أبو حيوة " نِجْسٌ " بكسر النُّون وسكون الجيم، وجهه أنَّه اسمُ فاعل في الأصلِ على " فَعِل " مثل :" كَتِف وكَبِد " ثم خُفِّف بسكون عَيْنه بعد إتباع فائه، ولا بُدَّ من حذف موصوف حينئذٍ قامَتْ هذه الصفةُ مقامه، أي : فريق نجس، أو جنس نجس، فإذا أفرد قيل " نَجس " بفتح النون.
قال البغوي " ولا يقال على الانفراد، بكسر النُّون وسكون الجيم، إنَّما يقال
٦٠


الصفحة التالية
Icon