" رِجْسٌ نِجْسٌ "، فإذا أفرد قيل " نَجِسٌ " بفتح النون وكسر الجيم " وقرأ ابن السَّميفع " أنْجَاس " بالجمع، وهي تحتمل أن تكون جمع قراءةِ الجمهور، أو جمع قراءةِ أبي حيوة، وأراد به نجاسة الحكم، لا نجاسة العين، سُمُّوا نجساً على الذَم.
وقال ابنُ عبَّاس وقتادةُ " سماهم نجساً " ؛ لأنَّهم يجنبون، فلا يغتسلون، ويحدثون فلا يتوضؤون " ونقل الزمخشري عن ابن عباسٍ " أنَّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير " وعن الحسنِ " مَنْ صَافحَ مشركاً توضَّأ " وهذا قول الهادي من أئمة الزَّيدية.
وأمَّا الفقهاءُ : فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم، وهذا هلاف ظاهر القرآن، فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصلٍ، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا من الخلاف.
واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي ﷺ شرب من أوانيهم، وأيضاً لو كان نجساً، لما تبدل ذلك بالإسلام، وأجاب القائلون بالنجاسة : بأنَّ القرآن أقوى من خبر الواحد وبتقدير صحَّةِ الخبر ؛ يجب أن يعتقد أن حل الشرب من إنائهم كان متقدماً على نزول هذه الآية من وجهين : الأول : أنَّ هذه السُّورة من آخر ما نزل من القرآن، وأيضاً كانت المخالطة مع الكُفَّار جائزة فحرَّمها الله تعالى، وكانت المعاهدة حاصلة معهم، فأزالها الله ؛ فلا يبعد أن يقال أيضاً : الشرب من أوانيهم، كان جائزاً فحرمه اللهُ.
الثاني : أنَّ الأصل حل الشرب من أي إناء كان، فلو قلنا إنه حرم بحكم الآية، ثم حل بحكم الخبرِ، فقد حصل نسخان، أما لو قلنا إنَّه كان حلالاً بحكم الأصل، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل، ثم جاء التَّحريمُ بهذه الآيةِ، لم يحصل النَّسخ إلاَّ مرة واحدة ؛ فوجب أن يكون هذا أولى.
وأما قولهم : لو كان الكافرُ نجس العين، لما تبدَّلت النجاسةُ بالطَّهارة بسبب الإسلام.
فهذا قياس في معارضة النَّص الصَّريح، وأيضاً فالخمرةُ نجسة العين، فإذا انقلبت بنفسها خلاًّ طهرت، وأيضاً إنَّ الكافر إذا أسلم ؛ وجب عليه الاغتسالُ، إزالة للنجاسةِ الحاصلة بحكم الكفر، وهذا ضعيفٌ ؛ فإنَّ الأعيانَ النجسة لا تقبل التَّطهير بالغسل، إنما يطهر بالغسل ما ينجس.
فصل قالت الحنفيَّةُ : أعضاءُ المحدث نجسة نجاسة حكمية، وبنوا عليه أنَّ الماء المستعمل
٦١
في رفع الحدث نجس، ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة : أنَّهُ نجاسة خفيفة، وروى الحسنُ بن زيادٍ : أنَّه نجس نجاسة غليظة، وهذه الآية تدلُّ على فساد هذا القول ؛ لأن كلمة " إِنَّمَا للحصر، فاقتضى أن لا نجس إلاَّ المشرك، فالقولُ بأنَّ أعضاءَ المحدث نجسة، يخالف هذا النَّص، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس، وفي أنَّ المؤمن ليس بنجس، ثم إنَّ قوماً قلبوا القضية، وقالوا : المشرك طاهرٌ، والمؤمن حال كونه محدثاً نجس، وزعموا أنَّ المياه التي يستعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة، والمياه التي يستعملها أكابرُ الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة، مع مخالفة قوله عليه الصلاة والسلام :" المُؤمنُ لا يَنْجُسُ حيّاً، ولا ميتاً " وأجمعوا على أنَّ إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته، ولو كان يده رطبة فوصلت إلى يدِ مُحدث لم تنجس يده، ولو عرق المحدثُ ووصل العرقُ إلى ثوبه لم ينجس الثوب، والقرآن، والخبر، والإجماع، تطابقت على القول بطهارة وأعضاء المحدث، فكيف يمكن مخالفته ؟ فصل قيل المرادُ بالمسجدِ الحرام : نفس المسجدِ، وقيل : جميع الحرم، وهو الأقربُ لقوله تعالى :﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد ؛ فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة، لما خافُوا بسبب هذا المنع من العَيْلَة، وإنَّما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواقِ والمواسم، ويؤكد هذا قوله تعالى :﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الإسراء : ١] مع أنَّهم أجمعُوا على أنه إنَّما رفع الرسول من بيت أم هانىء، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام " لا يجتمع دينان في جزيرة العربِ " وهي من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولاً، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشَّام عرضاً، واعلم أنَّ جملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام : أحدها : الحرم، فلا يجوزُ للكافر أن يدخله بحال ذمِّيّاً كان أو مستأمناً، لظاهر هذه الآية، وإذا جاء رسول من دار الكُفرِ إلى الإمام، والإمام في الحرمِ، لا يأذن له في دخول الحرم، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم، وإن دخلَ مشكر الحرم متوارياً فمرض فيه، أخرجناه مريضاً، وإن مات ودفن ولم نعلم نبشناه، وأخرجنا عظامه إذا أمكن، وجوَّز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم.
والقسم الثاني من بلاد الإسلام : الحجازُ، فيجوز للكافر دخولها بالإذن، ولكن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيَّامٍ، مقام السفرِ، لما روي عن عمر بن الخطابِ، أنه سمع رسول الله
٦٢