والثاني : أنها حاليةٌ.
وقوله :" ليواطِئُوا " في هذه اللام وجهان : أحدهما : أنها متعلقةٌ بـ " يُحَرِّمُونَه " وهذا مقتضى مذهب البصريين فإنهم يعملون الثاني من المتنازعين.
والثاني : أنَّها تتعلَّق بـ " يُحِلُّونَهُ " وهذا مقتضى مذهب الكوفيين، فإنهم يعملون الأول، لسبقه.
وقول من قال : إنَّها متعلقةٌ بالفعلين معاً، فإنَّما يعني من حيث المعنى، لا اللفظ.
وقرأ أبُو جعفرٍ " ليُواطِئُوا " بكسر الطَّاءِ وضمِّ الياءِ الصَّريحة.
والصحيحُ أنه ينبغي أن يقرأ بضمِّ الطاء وحذف الياء ؛ لأنَّه لمَّا أبدل الهمزة ياءً استثقل الضمة عليها فحذفها، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وضمت الطاء، لتجانس الواو والمواطأة : الموافقةُ والاجتماع، يقال : تواطئوا على كذا، أي : اجتمعوا عليه كأنَّ كلَّ واحدٍ يَطَأ حيث يَطَأ الآخر، ومنه قوله تعالى :﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً﴾ [المزمل : ٦].
وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وقرأ الزهريُّ " لِيُواطِيُّوا " بتشديد الياء، هكذا ترجموا قراءته، وهي مشكلةٌ، فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء، وتخليصها من الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهها وهو كما قال.
قوله :" زُيِّنَ " الجمهور على " زُيِّنَ " ببنائه للمفعول، والفاعل المحذوف هو الشيطان.
وقرأ زيد بن علي " زَيَّن " ببنائه للفاعل، وهو الشيطان أيضاً، و " سوء " مفعوله.
فصل معنى النَّسيء : هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر، وذلك أنَّ العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم، وكان ذلك ممَّا تمسكت به من ملة إبراهيم، وكانت معايشهم من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية، وربَّما وقعت لهم حرب في الأشهر الحرم، فيكرهون تأخير حربهم، فنسئوا، يعني : أخَّرُوا تحريم ذلك الشَّهر إلى شهر آخر، وكانوا يؤخِّرُون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمون صفر، ويستحلُّون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخَّرُوه إلى ربيع الأوَّل ؛ فكانوا يصنعون هكذا شهراً بعد شهر حتَّى استدار التَّحريم إلى السَّنة كلها، فقام الإسلامُ وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وذلك بعد دهر طويل، فخطب النبيُّ ﷺ وقال :" ألاّ إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السَّنة
٨٩
اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان...
" الحديث.
فأمرهم بالمحافظة لئلاَّ يتبدل في مستأنف الأيام.
واختلفوا في أوَّل من نسأ النَّسيء.
فقال ابنُ عباس والضحَّاك وقتادة ومجاهد " أوَّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة ".
وقال الكلبيُّ " أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، وكان يقومُ على الناس بالموسم، فإذا همَّ الناسُ بالصدودِ، قام فخطب، فقال : لا مردّ لما قضيتُ، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون : لبيك، ثم يسألونه أن ينسأهم شهراً يغيرون فيه، فيقول : إنَّ صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار، ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال حلال، عقدوا الأوتار، وشدوا الأزجة، وأغاروا وكان من بعد نعيم رجل يقال له : جنادة بن عوف، وهو الذي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من كنانة يقال له : القَلَمَّسُ.
قال شاعرهم :[الوافر]
٢٧٨٢ - ومِنَّا نَاسِىءُ الشَّهْرِ القَلمَّسْ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٨٣
وكانوا لا يفعلون ذلك إلاَّ في الحجِّ إذا اجتمعت العرب في الموسم.
وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس :" إنَّ أول من سنَّ النَّسيء : عمرو بن لُحَيّ بن قمعة بن خندف ".
ثم قال :﴿إِنَّمَا النَّسِى ءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ تقدَّم الكلام عليه.
﴿يُحِلُّونَهُ عَاماً﴾ يعني : النَّسيء ﴿وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ﴾ أي : يوافقوا.
﴿عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ أي : إنهم لم يحلوا شهراً من الحرام إلاَّ حرَّمُوا مكانه شهراً من الحلال، ولم يحرِّمُوا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرام، لئلاَّ يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر، فتكون الموافقة في العدد.
﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُواءُ أَعْمَالِهِمْ﴾ قال ابنُ عبَّاس : زين لهم الشيطان :﴿وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾.
٩٠
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٨٣