قوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ﴾ الآية.
لمَّا ذكر فضائح الكفار عاد إلى التَّرغيب في مقاتلتهم.
قال ابنُ عبَّاس : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك لأنَّهُ عليه الصلاة والسلام لمَّا رجع من الطائف أقام بالمدينة أمر بجهاد الرُّوم وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر، حين طابت ثمار المدينة، واستعظم النَّاسُ غزو الرُّوم وهابوه، وكان ذلك في حر شديد، وسفر بعيد، ومفاوز، وعدُو كثير، وذلك حين طابت ثمار المدينة، وظلالها فأمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فشقَّ عليهم الخروج، وتثاقلُوا، فنزلت هذه الآية.
ومعنى :" إِذَا قِيلَ لَكُمُ " أي : قال لكم رسول الله ﷺ " انفِرُوا " اخرجوا، واسم القوم الذين يخرجون النفير.
قوله :" اثَّاقَلْتُمْ " أصله " تثَاقلْتُم " فلمَّا أريد الإدغام سكنت الثَّاءُ فاجتلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم في ﴿فَادَّارَأْتُمْ﴾ [البقرة : ٧٢]، والأصل :" تَدَارَأتُم ".
وقرأ الأعمشُ " تثاقَلْتُم " بهذا الأصل و " ما " في قوله :" مَا لَكُمْ " استفهامية، وفيها معنى الإنكار.
وقيل : فاعله المحذوف هو الرسول.
" اثَّاقَلْتُمْ " ماضي اللَّفظ، مضارع المعنى، أي : تتثاقلون، وهو في موضع الحالِ، وهو عاملٌ في الظَّرف، أي : ما لكم متثاقلين وقت القول.
وقال أبُو البقاءِ :" اثَّاقلتم : ماض بمعنى المضارع أي : ما لكم تتثاقلون، وهو في
٩١
موضع نصب، أي : أيُّ شيء لكم في التَّثاقل، أو في موضع جر على رأي الخليلِ.
وقيل : هو في موضع حال ".
قال أبو حيان : وهذا ليس بجيد ؛ لأنه يلزم منه حذفُ " أنْ " لأنه لا ينسبِكُ مصدرٌ إلاَّ من حرف مصدري والفعل وحذفُ " أنْ " في هذا قليلٌ جداً، أو ضرورة.
وإذا كان التقديرُ في التثاقل، فلا يمكن عمله في " إذا " لأنَّ معمول المصدر الموصول لا يتقدَّمُ عليه، فيكون النَّاصب لـ " إذا " والمتعلِّق به في التثاقل ما تعلَّق به " لَكُم " الواقعُ خبراً لـ " ما " وقرىء " أثَّاقلْتُم " بالاستفهام الذي معناه الإنكار، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يعمل في " إذا " ؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله، فيكونُ العاملُ في هذا الظَّرف إمَّا الاستقرارُ المقدَّر في " لكم "، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه باللَّفظ، والتقدير : ما تصنعون إذا قيل لكم، وإليه نحا الزمخرشي.
والظَّاهر أن يقدَّر : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى.
وقوله :" إِلَى الأَرْضِ " ضُمِّنَ اثَّاقلتم معنى المَيْلأ والإخلاء، فعدي بـ " إلى " والمعنى : تباطأتم إلى الأرض، أي : لزمتم أرضكم ومساكنكم، وملتم إلى الدنيا وشهواتها، وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه، ونظيره قوله ﴿أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ [الأعراف : ١٧٦] قال المفسِّرون : معناه : اثاقلتم إلى نعيم الأرض، وإلى الإقامة وبالأرض.
قوله ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي : بخفض الدنيا ودعتها.
وقوله :﴿إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ﴾ جناس لفظي]، وكذا قوله :﴿اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ﴾ [آل عمران : ٢٠٠]، وقوله :﴿أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾ [هود : ٤٨] وقوله :﴿يا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ﴾ [يوسف : ٨٤]، وقوله :﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ﴾ [النمل : ٤٤]، وقوله :﴿أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ﴾ [فصلت : ٥١]، وقوله :﴿عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الدخان : ٣٢] وقوله ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ [آل عمران : ٢٦].
قوله " مِنَ الآخِرَةِ " تظاهرت أقوالُ المعربين، والمفسرين على أنَّ " مِنْ " بمعنى " بدل " كقوله ﴿لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً﴾ [الزخرف : ٦٠]، أي : بدلكم ؛ ومثلة قول الآخر :[الرجز] ٢٧٨٣ - جَارِيةٌ لَمْ تأكُلِ المُرقَّقَا
ولمْ تَذُقْ مِن البُقُولِ الفُسْتُقَا
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٩١
وقول الآخر :[الطويل] ٢٧٨٤ - فَليْتَ لَنَا مِنْ ماءِ زَمْزمَ شَرْبَةٌ
مُبرَّدَةً باتَتْ على طَهَيَانِ
٩٢