إلاَّ أنَّ أكثر النَّحويين لم يثبتُوا لها هذا المعنى، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك، والتقدير هنا : اعتصمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياةِ الدُّنيا، وكذلك باقيها.
وقال أبُو البقاءِ :" مِنَ الآخِرَةِ " في موضع الحال، أي : بدلاً من الآخرة.
فقدَّر المتعلَّقَ كوناً خاصاً، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى.
ثم قال :" فما متاع الحياة الدنيا " أي : لذاتها.
وقوله " فِي الآخرةِ " متعلقٌ بمحذوفٍ من حيثُ المعنى، تقديره : فما متاعُ الحياة الدنيا محسوباً في الآخرة فـ " محسوباً " حالٌ مِنْ " متاعُ ".
وقال الحوفي : إنَّه متعلق بـ " قَلِيلٌ "، وهو خبر المبتدأ قال :" وجاز أن يتقدَّم الظَّرفُ على عامله المقترن بـ " إلاَّ " ؛ لأنَّ الظروف تعمل فيها روائحُ الأفعال، ولو قلت : ما زيدٌ عمراً إلاَّ يضرب، لم يَجُزْ ".
فصل الدَّليلُ على أنَّ متاع الدُّنيا في الآخرة قليل، أنَّ لذات الدُّنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفاتِ والبليات، ومنقطعة عن قريبٍ لا محالة، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفاتِ، ودائمة أبدية سرمدية، وذلك يوجب القطع بأنَّ متاع الدُّنيا في جنب متاع الآخرة قليل حقير.
قوله :﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾.
في الآخرة، وقيل : هو احتباس المطر عنهم في الدنيا.
قال القرطبيُّ :" هذا شرطٌ، فلذلك حذفت منه النُّون.
والجوابُ " يُعذِّبْكُم " و ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ وهذا تهديدٌ ووعيدٌ لتارك النَّفير ".
﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ خيراً منكم وأطوع.
قال ابنُ عبَّاسٍ :" هم التابعون ".
وقال سعيدُ بن جبير :" هم أبناء فارس " وقيل : هم أهلُ اليمن.
" وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً " بترككم النفير.
قال الحسنُ " الكناية راجعة إلى الله تعالى، أي : لا تضروا الله "، وقال غيره تعود إلى الرسول ؛ لأنَّ الله عصمه من الناس، ولا يخذله إن تثاقلتم عنه.
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
٩٣
قال الحسنُ وعكرمةُ : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ [التوبة : ١٢٢] وقال المحقِّقون : الصحيح أنَّ هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله ﷺ فلم ينفروا، وعلى هذا فلا نسخ.
قوله :﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾.
هذا الشرط جوابه محذوف، لدلالة قوله :﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ عليه، والتقدير : إلاَّ تنصروه فسينصره.
وذكر الزمخشريُّ فيه وجهين : أحدهما : ما تقدَّم.
والثاني : قال " إنه أوجب له النُّصْرَة، وجعله منصوراً في ذلك الوقتِ، فلنْ يُخْذَلَ من بعده ".
قال أبُو حيَّان :" وهذا لا يظهرُ منه جوابُ الشَّرط ؛ لأنَّ إيجابَ النصرة له أمْرٌ سبق، والماضي لا يترتَّب على المستقبل والذي يظهرُ الوجهُ الأول ".
وهذا إعلام من الله أنَّه المتكفلُ بنصر رسوله، وإعزاز دينه، أعانوه، أو لَمْ يُعينُوه، وأنه قد نصرهُ عند قلة الأولياءِ، وكثرة الأعداء، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العَدَدِ والعُدَدِ.
وقوله :﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أي : أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخُروج من مكَّة، حين مكروا به وأرادوا تثبيته، وهمُّوا بقتله.
قوله " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " منصوبٌ على الحالِ من مفعول " أخْرَجهُ " وقد تقدَّم معنى الإضافة في نحو هذا التَّركيب عند قوله :﴿ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ [المائدة : ٧٣].
وقرأت جماعة " ثَانِي اثنَيْنِ " بسكون الياء.
قال أبُو الفَتْحِ :" حكاها أبو عمرو ".
ووجهها أنَّ يكون سكَّن الياء تشبيهاً لها بالألفِ وبعضهم يخصُّه بالضرورة، والمعنى : هو أحد الاثنين، والاثنان أحدهما رسول الله ﷺ، والآخر أبو بكر الصديق.
قوله :﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾.
و " الغارُ " بيت يكون في الجبل، وهو هنا بيت في جبل ثور بمكَّة، ويجمع على " غِيران "، ومثله :" تاج وتِيجَان "، و " قاعٌ وقيعان "، والغارُ أيضاً : نَبْتٌ طيبُ الريح، والغارُ أيضاً : الجماعة والغاران : البطنُ والفرجُ.
وألف " الغَارِ " عن واو.
قوله :" إِذْ يَقُولُ " بدل ثان من " إذْ " الأولى.
وقال أبُو البقاءِ : أي : إذ هما في الغار، و " إذْ يَقُول " ظرفان لـ " ثَانِي اثنَيْنِ ".
فصل عن ابن عمر أنَّ رسول الله ﷺ قال لأبي بكر :" أنت صاحبي في الغارِ وصاحبِي
٩٤