قوله تعالى :﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي﴾ الآية.
﴿مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي﴾ كقوله :" يَا صالحُ ائتنا " من أنه يجوزُ تحقيقُ الهمزة، وإبدالها واواً، لضمة ما قبلها، وإن كانت منفصلةً من كلمةٍ أخرى.
وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة، وقد كان قبلها همزة وصلٍ سقطت درجاً.
قال أبو جعفرٍ " إذا دخلت " الواو " و " الفاء " على " ائذن " فهجاؤها : ألف وذال ونون، بغير ياء.
أو " ثم " فالهجاءُ : ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونونٌ.
والفرق : أنَّ " ثُمَّ " يوقف عليها وينفصل، بخلافهما ".
قال شهابُ الدِّين " يعني إذا دخلت واوُ العطف، أو فاؤه، على هذه اللفظة اشتدَّ اتصالهما بها، فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجاً، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ، فتكتب " فأذَنْ "، و " أذَنْ " فهذه الألف هي صورة الهمزة، التي هي فاء الكلمة ".
وإذا دخلت عليها " ثم " كُتِبَتْ كذا : ثم ائتُوا، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة.
قال شهابُ الدين : وكأنَّ هذا الحُكْمَ الذي ذكره مع " ثم " يختصُّ بهذه اللَّفظة، وإلاَّ فغيرها مما فاؤه همزةٌ، تسقط صورة همزة وصله خطّاً، فيكتب الأمرُ من الإتيان مع " ثم " هكذا :" ثُمَّ أتُوا "، وكان القياس على " ثُم ائْذَانْ " " ثم ائْتُوا "، وفيه نظرٌ، وقرأ عيسى بن عمر، وابن السَّميفع، وإسماعيل المكي، فيما روى عنه ابن مجاهد " ولا تُفْتِنِّي " بضم حرف المضارعة، من " أفتنه " رباعياً.
قال أبُو حاتم " هي لغة تميمٍ " وقيل : أفتنه : أدخله فيها، وقد جمع الشاعر بين اللغتين، فقال :[الطويل]
١١٠
٢٧٩١ - لَئِنْ فَتَنَتْني لَهْيَ بالأمْسِ أفْتَنَتْ
سَعِيداً فأمْسَى قَدْ قَلاَ كُلَّ مُسْلِمِ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ١١٠
ومتعلق " الإذن " : القعودُ، أي : ائذن لي في القعود والتخلف عن الغزو، ولا تَفْتِنِّي بخروجي معك.
أي : لا تهلكني بخروجي معك، فإنَّ الزمانَ شديد الحرّ، ولا طاقة لي به.
وقيل : لا تفتنيِّي ؛ لأنِّي إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي، وقيل : نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أنَّ النبي ﷺ لمَّا تجهَّز لغزو تبوك، قال له :" يا أبا وهب، هل كل في جلاد بني الأصفر ؟ يعني : الروم - تتخذ منهم سراري ووصفاء " فقال جدُّ : يا رسول الله، لقد عرف قومي أني رجل مغرمٌ بالنِّساءِ، وإنِّي أخشى إن رأيت بنات الأصفر ألاَّ أصبر عنهنَّ، ائذن لي في القعود، ولا تفتنِّي بهنّ، وأعينكم بمالي.
قال ابن عباسٍ :" اعتلَّ جدُّ بن قيس، ولم تكن علته إلا النفاق، فأعرض عنه النبي ﷺ وقال :" قد أذنت لك "، فأنزل الله عز وجل :﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي﴾ الآية.
قوله :﴿أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ﴾ أي : في الشّرك والإثم وقعوا بنفاقهم، وخلافهم أمر الله ورسوله.
وفي مصحف أبي " سَقَطَ " لأنَّ لفظة " مِنْ " موحد اللفظ، مجموع المعنى، وفيه تنبيه على أنَّ مَنْ عصى الله لغرض، فإنَّهُ تعالى يبطل عليه ذلك الغرض ؛ لأنَّ القوم لمَّا اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة، بيَّن اللهُ تعالى أنهم واقعون ساقطون في عينِ الفتنة - ثم قال ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ مطبقة عليهم.
قوله :﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ﴾ نصر وغنيمة " تَسُؤهُمْ " تُحزنهم، يعني المنافقين ﴿وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ﴾ نكبة وشدة ومكروه، يفرحوا، و ﴿يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ﴾ أي : حذرنا، " ويتَولَّوا " يدبروا عن مقام التحدث بذلك إلى أهليهم ﴿وَّهُمْ فَرِحُونَ﴾ مسرورون.
ونقل عن ابن عبَّاسٍ " أنَّ الحسنة في يوم بدرٍ، والمصيبة في يوم أحدٍ، فإن ثبت أنَّ المراد هذا بخبر وجب المصير إليه، وإلاَّ فالواجب حمله على كل حسنة، وعلى كل مصيبة ".
١١١
قوله :﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ﴾ قال عمر بن شقيق : سمعت " أعين " قاضي الرَّيِّ يقرأ " لن يُصيبنَّا " بتشديد النون.
قال أبُو حاتم : ولا يجوزُ ذلك ؛ لأنَّ النُّونَ لا تدخلُ مع " لَنْ "، ولو كانت لطلحة بن مصرف، لجاز، لأنها مع " هل "، قال الله تعالى ﴿هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج : ١٥].
يعني أبو حاتم : أنَّ المضارع يجوز توكيده بعد أداة الاستفهام، وابن مصرف يقرأ " هَلْ " بدل " لَنْ "، وهي قراءة ابن مسعود.
وقد اعتذر عن هذه القراءة بأنَّها حملت " لن " على " لم " و " لا " النافيتين، و " لم " و " لا " يجوز توكيد الفعل المنفيِّ بعدهما.
أمَّا " لا " فقد تقدم تحقيق الكلام عليها في الأنفال.
وأما " لم " فقد سمع ذلك فيها ؛ وأنشدوا :[الرجز] ٢٧٩٢ - يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلمَا
شَيْخاً عَلَى كُرسيِّهِ مُعَمَّمَا
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ١١٠


الصفحة التالية
Icon