يجوز تقديم ما بعد " لا " الناهية عليها، لكونه مجزوماً بها، فقد تقدَّم المعمولُ، حيث لا يتقدَّم للعامل ذكر، ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر " ليس " بقوله ﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ﴾ [هود : ٨].
فصل فرق بين قولك : أتستهزىء بالله، وبين قولك : أبالله تستهزىء، فالأوَّلُ يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء، والثاني يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله، كأنه يقول : هَبْ أنك تقدم على الاستهزاء إلا أنه كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله كقوله تعالى :﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات : ٤٧] والمقصود : ليس نفي الغول، بل نفي أن يكون خمر الجنَّة محلاًّ للغول.
ومعنى الاستهزاء بالله : هو الاستهزاء بتكاليفِ الله، والاستهزاء بذكر الله، فإنَّ أسماء الله قد يستهزىء بها الكافرُ، كما أنَّ المؤمن يعظمها.
والمرادُ بالاستهزء بـ " آيَاتِهِ " هو القرآن، وسائر ما يدلُّ على الدين، والرسول معلوم.
قوله :﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ﴾.
نقل الواحديُّ عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين، الأول : أنَّه عبارة عن محو أثر الذنب، وأصله من : تعذرت المنازل، أي : دَرَسَتْ، وامَّحت آثارها ؛ قال ابن أحمر :[البسيط] ٢٨١٠ - قَدْ كُنتَ تَعْرفُ آياتٍ فقدْ جَعَلتْ
أطْلالُ إلفِكَ بالوَعْسَاءِ تَعْتَذِرُ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ١٢١
فالمعتذر يزاولُ محو ذَنْبِهِ.
والثاني : قال ابنُ الأعرابي : أصله من العذر، وهو القطع، ومنه العُذْرة ؛ لأنَّها تقطع بالافتراغ.
ويقولون : اعتذرت المياه، أي : انقطعت، فكأنَّ المعتذر يحاولُ قطع الذمّ عنه.
قوله :﴿قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ يدلُّ على أنَّ الاستهزاء بالدِّين كيف كان كفراً ؛ لأنه استخفاف بالدين، والعمدة في الإيمان تعظيم الله تعالى، ويدل على أنَّ القول الذي صدر منهم كان كفراً في الحقيقة.
فإن قيل : كيف قال ﴿كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ وهم لم يكونوا مؤمنين ؟ فالجواب : قال الحسنُ : أظهرتم الكفر بعد ما أظهرتم الإيمان.

فصل قال ابنُ العربي :" لا يخلو ما قالوا من أن يكون جداً، أو هزلاً، وهو كيفما كان


١٣٨
كفراً فإنَّ القول بالكفر كفر بلا خلاف بين الأئمة، قال تعالى :﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة : ٦٧].
فصل اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق، قيل : يلزم وقيل : لا يلزم، وقيل : يفرق بين البيع وغيره.
فيلزمُ في النكاح والطلاق، ولا يلزم في البيع وحكى ابنُ المنذر الإجماع في أن جدَّ الطلاق وهزله سواء.
وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :" ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جد وهزلهُنَّ جِدّ، النِّكاحُ والطلاقُ والرَّجْعَةُ " قال الترمذيُّ " حديث حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم ".
قال القرطبي :" وفي الموطأ عن سعيد بن المسيِّب قال ثلاث ليس فيهن لعب النكاح والطلاق والعتق ".
قوله :"...
إن نَعْفُ " قرأ عاصم " نَعْفُ " بنون العظمة، " نعذِّب " كذلك، " طَائفَة " نصباً على المفعول به، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السُّلمي، وزيد بن علي.
وقرأ الباقون " يُعْفَ " في الموضعين بالياء من تحت مبنياً للمفعول، ورفع " طَائفةٌ "، على قيامها مقام الفاعل والقائمُ مقام الفاعل في الفعل الأوَّلِ الجارُّ بعده.
وقرأ الجحدريُّ " إن يَعْفُ " بالياء من تحت فيهما، مبنياً للفاعل، وهو ضميرُ الله تعالى، ونصب " طائفة " على المفعول به.
وقرأ مجاهدٌ " تُعْف " بالتاء من فوق فيهما، مبنياً للمفعول، ورفع " طائفة "، لقيامها مقام الفاعل.
وفي القائم مقام الفاعل في الفعل الأوَّل وجهان : أحدهما : أنَّهُ ضمير الذنوب، أي : إن تُعْفَ هذه الذنوب.
والثاني : أنَّه الجارُّ، وإنَّما أنِّث الفعل حملاً على المعنى.
قال الزمخشريُّ " الوجه التذكير ؛ لأنَّ المسند إليه الظرفُ، كما تقول : سِيرَ بالدَّابة، ولا تقول : سِيرت بالدَّابة، ولكنه ذهب إلى المعنى، كأنه قيل : إن تُرْحَمْ طائفة فأنَّث لذلك، وهو غريبٌ ".
١٣٩


الصفحة التالية
Icon