كقوله :﴿أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ [النساء : ٩٠] في أحد أوجهه كما تقدَّم، وإلى هذا نحا الزمخشريُّ.
الثالث : أن يكون معطوفاً على الشَّرط ؛ فيكون في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه بطريق النسق وحذف حرف العطف، والتقدير : وقلت، وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة وإلى هذا ذهب الجرجاني، وتبعه ابنُ عطيَّة، إلا أنَّه قدَّر العاطف فاءً أي : فقلت.
الرابع : أن يكون مستأنفاً.
قال الزمخشريُّ " فإن قلت : هل يجُوزُ أن يكون قوله :" قلت لا أجدُ " استئنافاً مثله ؟ - يعني مثل :﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ [التوبة : ٩٣] - كأنَّه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولَّوا، فقيل : ما لهُم تولَّوا باكينَ ؟ قلت لا أجدُ ما أحملهم عليه إلاَّ أنَّه وسط بين الشرط والجزاء، كالاعتراض ؟ قلتُ : نعم، ويحسنُ " انتهى.
قال أبُو حيَّان " ولا يجوزُ، ولا يحسن في كلام العربِ، فكيف في كلام الله ؟ وهو فهم أعجمي " قال شهابُ الدين : وما أدري ما سببُ منعه، وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظاً ومعنًى ؟ وذلك لأنَّ تولِّيهم على حالة فيض الدَّمع ليس مرتباً على مجرَّد مجيئهم له عليه الصلاة والسلام - لهم ذلك سببٌ في بكائهم ؛ فحسن أن يجعل قوله :﴿قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ﴾ جواباً لمنْ سأل عن علةِ تولِّيهم، وأعينُهم فائضةٌ دمعاً وهو المعنى الذي قصده أبُو القاسم وعلى هذه الأوجه الأربعة المتقدمة في " قُلْتَ " يكون جواب الشَّرط قوله :" تولَّوا "، وقوله " لِتحْمِلهُمْ " علة لـ " أتَوْكَ ".
وقوله :" لا أجدُ " هي المتعديةُ لواحدٍ ؛ لأنَّها من " الوُجْد "، و " مَا " يجوز أن تكون موصولةً، أو موصوفةً.
فصل قال أبُو العباس المقرىء : ورد لفظ التَّولِّي في القرآن على أربعة أوجه : الأول : بمعنى الانصراف، قال تعالى :﴿تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ﴾ [التوبة : ٩٢] ومثله قوله تعالى ﴿ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾ [القصص : ٢٤] أي : انصرف.
الثاني : بمعنى :" أبَى "، قال تعالى ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم﴾ [المائدة : ٤٩] أي : أبَوْا أن يؤمنوا ؛ ومثله قوله تعالى ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ﴾ [النساء : ٨٩].
الثالث : بمعنى :" أعرض " قال تعالى ﴿وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ [النساء : ٨٠].
الرابع : الإعراض عن الإقبال، قال تعالى ﴿فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ﴾ [الأنفال : ١٥].
قوله :﴿وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " تولَّوا ".
قال الزمخشريُّ " تفيضُ من الدَّمع، كقولك : تفيض دمعاً ".
وقد تقدَّم الكلام على هذا في المائدة مستوفًى عند قوله ﴿تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ [المائدة : ٨٣] وأنَّهُ جعل " من الدَّمع " تمييزاً، و " مِنْ " مزيدة وتقدَّم الرَّد عليه في ذلك هناك.
١٧٣