وكلُّ من يسكن جزيرة العرب وينطقُ بلسانهم ؛ فهو منهم ؛ لأنَّهم إنَّما تولَّدُوا من ولد إسماعيل، وقيل : سمُّوا عرباً ؛ لأنَّ ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم، وهذه الأقوال ليست بشيء من الأول، فلأن إسماعيل حين ولدته هاجر نزلت عندهم " جُرهم " فربي بينهم، وكانوا عرباً قبل إسماعيل، ولأن " يعرب " من ولد إسماعيل، وكان حميلاً عربياً.
وأمَّا الثاني لأن إسماعيل تعلَّم العربيَّة في " جُرهم " حين نزلوا عند هاجر بمكَّة.
والصحيحُ أنَّ العرب العاربة قبل إسماعيل منهم : عادٌ وثمود، وطسْم، وجديس، وجرهم، والعماليق، وآدم يقال : إنَّه كان ملكاً، وأنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر، وبنوه قبيلة يقال لها " وبار " هلكوا بالرما.
انثال عليهم ؛ فأهلكهم وطمَّ منازلهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء :[الرجز] ٢٨٣٥ - وكَرَّ دَهْرٌ على وَبَار
فَهَلَكَتْ جَهْرَةً وبَارُ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ١٧٧
وأمَّا الثالثُ، فكلُّ لسان معرب عمَّا في ضمير صاحبه، وإنَّما يظهر ما قاله النسابُون، أنَّ سام بن نوح أبو العرب، وفارس، والروم، فدل على أنَّ العرب موجودون من زمن سام بن نوح.
قال بعضهم : والصحيحُ إن شاء الله تعالى - أن آدم نطق بالعربيَّة، وغيرها من الألسنةِ، لقوله تعالى :﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة : ٣١].
ولا شكّ أنَّ اللِّسان العربيّ مختصّ بأنواع الفصاحةِ والجزالة، لا توجدُ في سائرِ الألسنةِ.
قال بعضُ الحكماءِ : حكمة الرُّوم في أدمغتهم ؛ لأنَّهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمةُ الهندِ في أوهامهم، وحكمةُ اليونانِ في أفئدتهم لكثرةِ ما لهم من المباحث العقليَّةِ، وحكمة العرب في ألسنتهم بحلاوةِ ألفاظهم، وعذوبة عباراتهم.
فصل اعلم أن الله تعالى حكم على الأعراب بحكمين : الأول : أنَّهُم أشدّ كفراً ونفاقاً، والسبب فيه وجوه : أحدها : أنَّ أهل البدو يشبهون الوحوش.
وثانيها : استيلاءُ الهواء الحار اليابس عليهم، وذلك يزيدُ في التيه، والتَّكبر، والفخر، والطيش عليهم.
١٨٠
وثالثها : أنَّهُم ما كانوا تحت سياسة سائس، ولا تأديب مؤدب ؛ فنشأوا كما شاءوا، ومن كان كذلك ؛ خرج على أشدِّ الجهات فساداً.
ورابعها : أنَّ من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله ﷺ، وبياناته الشافية، كيف يكون مُساوياً لمن لم يؤثر هذا الخير، ولم يسمع خبره ؟ وخامسها : قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية، لتعرف الفرق بين أهل الحضرِ والباديةِ.
و " أشَدّ " أصله : أشدد، وقد تقدم.
وقوله " كُفْراً " نصب على الحال، و " نِفَاقاً " عطف عليه، و " أجْدَرُ " عطف على " أشَدّ ".
الحكم الثاني : قوله :﴿وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ..
" أجْدَر " أي : أحَقُّ وأولى ؛ يقال : هو جديرٌ وأجدرُ، وحقيقٌ وأحقُّ، وخليقٌ وأخلقُ، وقمنٌ بكذا، كلُّه بمعنى واحد، قال الليثُ : جَدَر يَجْدرُ جدارَةً، فهو جَديرٌ، ويُثَنَّى ويُجمع ؛ قال الشاعر :[الطويل] ٢٨٣٦ - بخيْلٍ عليْهَا جِنَّةٌ عبْقريَّةٌ
جَديرُونَ يَوْماً أنْ ينَالُوا فَيسْتَعْلُوا
وقد نبَّه الرَّاغبُ على أصل اشتقاقِ هذه المادة، وأنَّها من الجدار، أي : الحائط، فقال :" والجديرُ : المُنتهى، لانتهاء الأمر إليه، انتهاءَ الشَّيء إلى الجدارِ ".
والذي يظهر أنَّ اشتقاقه من :" الجَدْر، وهو أصل الشجرة ؛ فكأنَّه ثابتٌ كثبوتِ الجدر في قولك : جدير بكذا.
وقوله :﴿أَلاَّ يَعْلَمُواْ﴾ أي : بألاَّ يعلمُوا، فحذف حرف الجر ؛ فجرى الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي، مع سيبويه والفراء.
والمراد بالحدُودِ : ما أنزل الله على رسوله، وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السُّننِ.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بما في قلوب خلقه :" حَكِيمٌ " فيما ف رض عليهم من فرائضه.
قوله تعالى :﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً﴾.
نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم.
" مَنْ " بمتدأ، وهي إما موصولةٌ، وإمَّا موصوفةٌ.
و " مَغْرَماً " مفعول ثانٍ ؛ لأنَّ " اتَّخَذَ " هنا بمعنى " صيَّر ".
والمَغْرَمُ : الخسران، مشتق من الغرام، وهو الهلاك ؛ لأنَّه سببه، ومنه :﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً﴾ [الفرقان : ٦٥].
وقيل أصله الملازمةُ، ومنه الغريمُ : للزومه من يطالبه، والمغرم : مصدر كالغرامةِ، والمغرم التزام ما لا يلزمُ.
قال عطاءٌ : لا يرجُون على إعطائه ثواباً ؛ ولا يخافون على إمساكه عقاباً، وإنَّما ينفقُ مغرماً ورياءً.
و " يتربَّصُ " عطفٌ على " يتَّخِذ "، فهو إمَّا صلة، وإما صفة.
والتَّربُّصُ : الانتظارُ.
وقوله :﴿بِكُمُ الدَّوَائِرَ﴾ فيه وجهان :
١٨١


الصفحة التالية
Icon