ثم إنَّه تعالى بيَّن العلَّة في هذا النَّهْي، وهي أنَّ أحد المسجدين لمَّا كان مبنياً على التَّقوَى من أول يوم، وكانت الصَّلاة في مسجد آخر تمنع من الصَّلاة في مسجد التقوى، علم بالضرورة أنه يمنع من الصَّلاة في المسجد الثاني.
فإن قيل : كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني.
فالجواب : علة المنع وقعت بمجموع الأمرين، أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد المذكورة وهي المضارة والكفر والتَّفريق بين المؤمنين وإرصاده لمن حارب الله ورسولهُ، وكون مسجد التقوى يشتمل على الخيرات الكثيرة.
فصل قال القرطبي " قال علماؤنا : لا يجوز أن يُبنى مسجد إلى جانب مسجد، ويجب هدمه، والمنع من بنائه، لئلاَّ ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلاَّ أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجدٌ واحدٌ فيبنى حينئذٍ.
وكذلك قالوا : لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلَّى فيه الجمعة لم تجزه.
وقال علماؤنا : كلَّ مسجد بُنِيَ على ضرارٍ أو رياء أو سمعة فهو في حكم مسجد الضِّرارِ لا تجوز الصلاة فيه ".
فصل قال النقاش " ويلزمُ من هذا ألاَّ يصلى في كنيسة ونحوها ؛ لأنَّها بنيت على شر ".
قال القرطبي " وهذا لا يلزمُ ؛ لأنَّ الكنيسة لم يقصد ببنائها الضَّرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شرٍّ، وإنما اتَّخذت النَّصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً لعبادتهم بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا، وقد أجمع العلماء على أن من صلَّى في كنسةٍ، أو بيعة على موضع طاهرٍ أنَّ صلاته صحيحةٌ جائزةٌ.
وذكر البُخاريُّ أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل، وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي ﷺ أمره أن يبني مسجد الطائف حيثُ كان طواغيتُهم ".
فصل قال القرطبيُّ " قال علماؤنا : من كان إماماً لظالم لا يصلِّي وارءه، إلاَّ أن يظهر عذره أو يتوب ؛ لأنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة أن يصلِّي بهم في مسجدهم، فقال : لا والله ولا نعمة
٢٠٦
عين! أليس بإمام مسجد الضرار ؟ فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليَّ، فوالله لقد صليتُ فيه، وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمتُ ما صلَّيْتُ بهم فيه، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شُيُوخاً قد عاشوا على جاهليتهم، وكانوا لا يقرءون من القرآن شيئاً، فصلَّيْتُ ولا أحسب ما صنعت إثماً، ولمْ أعلمْ ما في أنفسهم ؛ فعذرهُ عمر، وصدَّقه وأمره بالصلاة في مسجد قُبَاء ".
فصل قال القرطبيُّ " قال علماؤنا : إذا كان المسجد الذي يتَّخذ للعبادة وحضَّ الشارع على بنائه بقوله :" مَنْ بنَى للهِ مسجداً، ولوْ كَمَفْحَصِ قطاةٍ بنى اللهُ لهُ بيتاً في الجنَّةِ " يُهْدم إذا كان فيه ضرر بغيره ؛ فما ظنُّك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم.
كمنْ بنى فرناً أو رحًى أو حفر بئراً، أو غير ذلك ممّا يدخل ضرراً على الغير.
والضَّابطُ فيه : أنَّ منْ أدخَلَ ضرراً على أخيه منع، فإن أدخل على أخيه ضرراً بفعل ما كان له فعله في ماله، فأضرَّ ذلك بجاره، أو غير جاره، نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضرراً من الضَّررِ الدَّاخل على الفاعل قطع أكبر الضَّررين.
مثل من فتح كُوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهلُ، ومن شأن النساء في بيوتهن التجرد من بعض ثيابهنّ والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أنَّ الاطلاع على العورات محرّم، نهى الشَّارعُ عن الاطلاع إلى العورات فرأى العلماء أن يغلقوا الكُوَّة وإن كان فيها منفعة وراحة ؛ لأنَّ ضرر الكُوَّة أعظم من ضرر سدِّها، خلافاً للشافعي، فإنَّ أصحابه قالوا : لو حفر في ملكه بئراً، وحفر آخر في ملكه بئراً يسرقُ منه ماء البئر الأولى جاز ؛ لأنَّ كلَّ واحد حفر في ملكه ؛ فلا يمنع، ومثله عندهم : لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفاً يفسد عليه ماءه لم يكن له منعه ؛ لأنه تصرف في ملكه، والقرآنُ والسُّنَّةُ يردان هذا القول.
ومن هذا النوع من الضَّرر الذي منع العلماء منه، دُخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدُّود المتولد من الزبل المنشور في الرحاب ؛ فإنه يمنع منه ما كثر ضرره وخشي تماديه ".
قوله :"...
لمَسْجِدٌ...
" فيه وجهان : أحدهما : أنَّها لامُ الابتداء.
والثاني : أنَّها جوابُ قسمٍ محذوف تقديره : والله لمسجدٌ أسِّسَ، أي : بني أصله على التقوى.
وعلى التقديرين فيكون " لمَسْجِدٌ " مبتدأ، و " أسِّسَ " في محل رفع نعتاً له، و " أحقُّ " خبره.
والقائمُ مقام الفاعل ضميرُ المسجد على حذف مضاف، أي : أسِّسَ بنيانه، و " مِنْ أوَّلِ " متعلقٌ به، وبه استدلَّ الكوفيون على أنَّ " مِنْ " تكون لابتداء الغاية في الزمان ؛ واستدلُّوا أيضاً بقوله :[الطويل]
٢٠٧
٢٨٤٥ - مِنَ الصُّبْحِ حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ لا تَرَى
من القَوْمِ إِلاَّ خَارِجيّاً مُسَوَّمَا
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٠٢