وقول الآخر :[الطويل] ٢٨٤٦ - تُخَيَّرنَ مِنْ أزمانِ يوْمِ حليمَةٍ
إلى اليوْمِ قَدْ جُرِّيْنَ كُلَّ التَّجاربِ
وقد تأوَّله البصريون على حذف مضاف، أي : من تأسيس أول يوم، ومن طلوع الصُّبحِ، ومن مجيء أزمان يوم.
قال القرطبي :" مِنْ " عند النحويين مقابلة " مُنذ "، فـ " منذ " في الزمان بمنزلة " من " في المكان، أي : من تأسيس أوَّل الأيام ؛ فدخلت على مصدر الفعل الذي هو " أسس " ؛ كقوله :[الكامل] ٢٨٤٧ - لِمَنِ الدِّيارُ بقُنَّةِ الحَجْرِ
أقْويْنَ مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ ؟
أي من مرور حجج ومن مرور دهر، وإنَّما دعا إلى هذا أنَّ من أصول النحويين أنَّ " مِنْ " لا يجر بها الأزمان، وإنَّما تُجَرّ الأزمانُ بـ " مِنْذُ "، تقولُ : ما رأيته منذُ شهرٍ، أو سنة.
قال أبو البقاءِ " وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ التأسيسَ المقدر ليس بمكانٍ، حتَّى تكون لابتداءِ الغاية ويدلُّ على جواز ذلك قوله :﴿لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [الروم : ٤]، وهو كثيرٌ في القرآن وغيره ".
قال شهابُ الدِّين : البصريون إنَّما فرُّوا من كونها لابتداء الغاية في الزَّمان، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنها لا تكونُ إلا لابتداء الغاية في المكان حتَّى يردّ عليهم بما ذكر، والخلاف في هذه المسألة قوي، ولأبي علي فيها كلامٌ طويلٌ.
وقال ابنُ عطيَّة :" ويحْسُنُ عندي أن يستغنى عن تقدير، وأن تكون " من " تجر لفظة " أول " ؛ لأنَّها بمعنى : البداءة، كأنَّهُ قال : من مبتدأ الأيام، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو ".
وقوله :" أَحَقُّ " ليس للتفضيل، بل بمعنى " حقيقٌ "، إذْ لا مفاضلة بين المسجدينِ.
٢٠٨
قال القرطبيُّ " أحقُّ " هو أفعل من الحق، و " أفعل " لا يدخلُ إلاَّ بين شيئين مشرتكين لأحدهما مزيَّة في المعنى الذي اشتركا فيه على الآخر، فمسجدُ الضِّرار وإن كان باطلاً لا حقَّ فيه، فقد اشتركا في الحقِّ من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظُن أنَّ القيام فيه جائز للمسجدية، لكن أحد الاعتقادين باطل باطناً عند الله، والآخر حق باطناً وظاهراً، ومثله قوله تعالى :﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾ [الفرقان : ٢٤] ومعلومٌ أنَّه لا خيرية في النَّارِ، لكنه جرى على اعتقاد كلِّ فرقة أنَّها خير، وأنَّ مصيرها إلى خير، إذ كل حزب بما لديهم فرحُون.
و " أنْ تقُوم " أي : بأن تقوم.
والتاء لخطاب الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام -.
و " فِيهِ " متعلقٌ ب÷.
قوله :" فِيهِ رجالٌ " يجوزُ أن تكون " فيه " صفةً لمسجد و " رِجَالٌ " فاعلٌ، وأن تكون حالاً من الهاء في " فِيهِ "، و " رِجَالٌ " فاعلٌ به أيضاً، وهذان أولى من حيث إنَّ الوصف بالمفرد أصل، والجارُّ قريبٌ من المفرد.
ويجوزُ أن يكون " فيهِ " خبراً مقدَّماً، و " رِجَالٌ " مبتدأ مؤخر.
وفي هذه الجملة أيضاً ثلاثة أوجه : أحدها : الوصف.
والثاني : الحالُ على ما تقدم.
والثالث : الاستئناف.
وقرأ عبد الله بن زيدٍ " فِيهِ " بكسر الهاء، و " فِيهُ " بضمها، وهو الأصل، جمع بذلك بين اللغتين، وفيه أيضاً رفع توهُّم التوكيد، ورفع توهُّم أنَّ " رِجَالٌ " مرفوع بـ " تَقُوم ".
وقوله " يُحِبُّون " صفة لـ " رِجَالٌ "، و " أنْ " مفعول به.
وقرأ طلحة بن مصرف، والأعمش " يَطَّهَّرُوا " بالإدغام، وعلي بنُ أبي طالب " المُتَطهِّرين " بالإظهار عكس قراءة الجمهور في اللفظتين.
فصل معنى " أسس " أي : بُني أصله ﴿عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ﴾ بُني ووضع أساسه ﴿أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾ مُصلياً.
واختلفوا في المسجدِ الذي أسِّسَ على التقوى، فقال ابنُ عمر وزيدُ ابنُ ثابت، وأبو سعيد الخدري : هو مسجد النبي ﷺ ويدلُّ عليه ما روى حميد الخراط قال : سمعتُ أبا سلمة بن عبدِ الرَّحمنِ قال : مرَّ بي عبدُ الرحمن بن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال : قُلتُ لهُ : كيفَ سمعت أباكَ يذكرُ في المسجدِ الذي أسِّسَ على التَّقْوَى ؟ قال : قال أبِي : دخلتُ على رسُولِ الله ﷺ في بيتِ بعضِ نسائِهِ فقلتُ يا رسُول الله، " أيُّ المَسْجدينِ
٢٠٩


الصفحة التالية
Icon