قال ابنُ الأنباري " وهذا التَّأويلُ فاسدٌ ؛ لأنَّ العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا : ضلل يضلل، واحتجاجهم ببيت الكميت باطلٌ ؛ لأنه يلزم من قولنا : أكفر في الحُكْم صحة قولنا : أضَلّ.
وليس كل موضع صح فيه " فعل " صح فيه " أفعل ".
فإنَّه يجوزُ أن يقال " كسر "، و " قتل "، ولا يجوزُ " أكْسَرَ "، و " أقْتَلَ " ؛ بل يجبُ فيه الرُّجوع إلى السماع ".
٢٢٥
قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ الآية.
فيها فوائد : أحدها : أنَّه تعالى لمَّا أمر بالبراءة من الكُفَّارِ، بيَّن أنَّه له ملك السموات والأرض، فإذا كان هو ناصركم فهم لا يقدرون على إضراركم.
وثانيها : أنَّ المسلمين قالوا : لمَّا أمرتنا بالانقطاع عن الكُفَّار ؛ فحينئذٍ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا، وأولادنا، وإخواننا، فكأنَّهُ قيل : إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم، فالإله المالكُ للسَّمواتِ والأرضِ، المُحْيِي المُمِيت ناصركم ؛ فلا يضركم انقطاعهم عنكم.
وثالثها : أنَّهُ تعالى لمَّا أمر بهذه التكاليف الشَّاقة كأنَّهُ قال : وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي، لكوني إلهكم، ولكونكم عبيداً لي.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢١٥
قوله :﴿لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ﴾ الآية.
لمَّا شرح أحوال غزوة تبوك، وأحوال المتخلِّفين عنها، عاد إلى شرح ما بقي من أحكامها فقال :﴿لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ﴾ الآية.
تاب الله : تجاوز وصفح، ومعنى توبته على النبيِّ : مؤاخذته بإذنه للمنافقين في التخلُّف، فقال :﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة : ٤٣]، وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلُّفِ عنه.
وقيل : توبةُ الله عليهم استنقاذهم من شدَّةِ العسرةِ.
وقيل : خلاصهم من نكايةِ العدوِّ وعبَّر عن ذلك بالتوبة - وإن خرج عن عرفها - لوجود معنى التَّوبة فيه، وهو الرُّجُوع إلى الحالة الأولى.
وقيل : افتتح الكلام به ؛ لأنَّه كان سبب توبتهم، فذكره معهم، كقوله تعالى :﴿فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ [الأنفال : ٤١].
وقيل : لا يبعدُ أن يكون صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلاَّ أنَّه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم، لأجْلِ تحملهم مشاق السفر في شدة الحر للجهاد، ثم إنَّه تعالى ضمَّ ذكر الرسول إلى ذكرهم، تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدِّين وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول - عليه الصلاة والسلام - إليهم في قبول التوبة.
قوله :"...
اتَّبَعُوهُ " يجوز فيه وجهان :
٢٢٦
أحدهما : أنَّهُ اتباعٌ حقيقي، ويكون عليه الصلاة والسلام خرج أولاً، وتبعه أصحابه.
وأن يكون مجازاً، أي : اتبعوا أمرهُ ونهيهُ.
وساعةُ العُسْرة عبارةُ عن وقتِ الخروج إلى الغزوِ، وليس المرادُ حقيقة السَّاعة، بل كقولهم " يَوْم الكُلاَب "، و :[الطويل] ٢٨٥٣ -.................................
عَشِيَّة قَارعْنَا جُذَامَ وحمْيَرا
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٢٦
فاستعيرت " السَّاعة " لذلك ؛ كما استعير " الغداة " و " العَشيَّة " في قوله :[الطويل] ٢٨٥٤ - غَداةَ طفَتْ عَلماءِ بكرُ بنُ وَائِلٍ
.............................
وقوله :[الطويل] ٢٨٥٥ - إذَا جَاءَ يَوْماً وارثي يبتَغِي الغِنَى
.....................
فصل في المراد بساعة العسرةِ قولان : الأول : أنها غزوةُ تبوك، والمرادُ منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدّاً في ذلك السَّفرِ.
والعسرة : تعذر الأمر وصعوبته.
قال جابِر " حصلت عسرة الظهر، وعسرة الماءِ، وعسرة الزَّادِ ".
أمَّا عُسرةُ الظهرِ ؛ فقال الحسنُ : كان العشرةُ من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم.
وأمَّا عسرة الزَّادِ، فريما مصَّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها، حتَّى لا يبقى من
٢٢٧