أم لا ؟ فمن منع ؛ لأنه كباب المبتدأ والخبر الصريح، والخبرُ الصريح متى كان كذلك ؛ امتنع تقديمهُ على المبتدأ، لئلاَّ يلتبس بباب الفاعل ؛ فكذلك بعد نسخه، ومن أجازَ فلأمن اللَّبْس.
ثم قال أبُو حيَّان :" ويُخَلِّصُ من هذه الإشكالات اعتقادُ كون " كَادَ " زائدة، ومعناها مراد، ولا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر، فتكُون مثل " كَانَ " إذا زيدتْ، يُراد معناها ولا عمل لها، ويؤيِّدُ هذا التأويل قراءةُ ابن مسعودٍ " مِنْ بعْدِ ما زَاغَتْ " بإسقاط " كاد " وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى :﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور : ٤٠] مع تأثُّرها بالعامل وعملها فيما بعدها ؛ فأحرى أن يُدَّعَى زيادتها، وهي ليست عاملةً ولا معمولةً " قال شهابُ الدِّين زيادتُها أباهُ الجمهور، وقال به من البصريين الأخفشُ وجعل منه ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ [طه : ١٥] وتقدَّم الكلام [البقرة : ٢٠٥] على ذلك.
وقرأ الأعمشُ، والجحدريُّ " تُزيغ " بضم التاء، وكأَّنه جعل " أزَاغَ "، و " زَاغَ " بمعنى.
وقرأ أبَيّ " كَادَتْ " بتاء التأنيث.
فصل " كاد " عند بعضهم تفيد المقاربة، وعند آخرين تفيدُ المقاربة مع عدم الوقوع و " الزيغ " الميل، أي : من بعد ما كاد تميلُ قلوب فريق منهم، أو بعضهم، ولم يرد الميل عن الدِّين بل أراد الميل للتخلف، والانصراف ؛ فهذه التوبةُ توبةٌ عن تلك المقاربة.
واختلفوا في الذي وقع في قلوبهم، فقيل : هَمَّ بعضهم عند تلك الشدَّة العظيمة أن يفارق الرسول، لكنه صبر واحْتَسبَ ؛ فلذلك قال تعالى :﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ لمَّا صبرُوا وندمُوا على ذلك الأمر اليسير.
وقال آخرون : بل كان ذلك تحدث النفس الذي كان مقدمة العزيمة، فلمَّا نالتهم الشِّدة، وقع ذلك في قلوبهم، ومع ذلك تلافوا هذا اليسيرَ خوفاً من أن يكون معصية ؛ فلذلك قال تعالى :﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾.
فإن قيل : ذكر التوبة في أوَّل الآية، وفي آخرها، فما فائدة التَّكرارِ ؟ فالجوابُ من وجوه : أحدها : أنَّهُ تعالى ابتدأ بذكر التَّوبةِ قبل ذكرِ الذَّنبِ تَطْيبباً لقلوبهم ثم لمَّا ذكر الذَّنبَ أردفه مرة أخرى بذكر التوبة ؛ تعظيماً لشأنهم.
وثانيها : إذا قيل : عفا السُّلطان عن فلان ثمَّ عفا عنه، دلَّ على أنَّ ذلك العفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمالِ والقوَّةِ، قال عليه الصلاة والسلام :" إنَّ اللهَ ليغفِرُ ذَنْبَ الرَّجُلِ المُسلمِ عشرينَ مرَّة " وهذا معنى قول ابنِ عبَّاس في قوله :﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾
٢٣٠
يريدُ ازداد عنهم رضا.
قال ابنُ عبَّاسٍ : مَنْ تاب اللهُ عليه لمْ يُعذِّبْه أبَداً.
وتقدمت هذه الآثار في سورة النساء.
وثالثها : أنه قال ﴿لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ وهذا الترتيبُ يدلُّ على أنَّ المراد أنَّهُ تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقعُ في قلوبهم في ساعة العسرةِ، ثمَّ إنه تعالى زاد عليه فقال :﴿مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ﴾ فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلاَّ يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس.
ثمَّ قال تعالى ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ وهما صفتان لله تعالى، ومعناهما متقارب، ويمكنُ أن تكون الرَّأفة عبارة عن إزالة الضَّرر، والرحمة عبارة عن إيصال المنفعة.
وقيل : إحداهما للرَّحمة السَّالفة، والأخرى للمستقبلة.
قوله :﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ﴾ الآية.
قوله " وعَلى الثَّلاثةِ " يجوزُ أن ينسقَ على " النبيِّ، أي : تاب على النبي، وعلى الثلاثة، وأن ينسقَ على الضَّمير في " عَليْهِمْ " أي : تاب عليهم، وعلى الثلاثة، ولذلك كُرِّرَ حرفُ الجر.
وقرأ جمهورُ النَّاس " خُلِّفُوا " مبنيّاً للمفعول مشدداً، من : خلَّفه يخلِّفه.
وقرأ أبُو مالك كذلك إلاَّ أنَّه خفَّف اللاَّم.
وقرأ عكرمةُ، وزر بنُ حبيشٍ، وعمرُو بنُ عبيدٍ، وعكرمة بنُ هارُونَ المخزميّ، ومعاذ للقارئ " خَلَفُوا " مبنيّاً للفاعل مخففاً من :" خَلَفَه ".
والمعنى : الذين خلفوا، أي : فسدُوا، مِنْ : خُلُوف الفمِ.
ويجُوزُ أن يكون المعنى أنهم خلفُوا الغازينَ في المدينة.
وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء كذلك، إلاَّ أنَّهُمَا شدَّدَا اللام وقرأ أبو رزين، وعلي بنُ الحسينِ، وابناه : زيدٌ، ومحمد الباقرُ، وابنه جعفر الصادقُ :" خَالفُوا " بألف، أي : لم يُوافِقُوا الغازين في الخروج.
قال الباقرُ " ولوْ خُلِّفُوا لم يكن لهم ".
وقرأ الأعمش " وعلى الثَّلاثة المخلَّفين ".
و " الظَّن " هنا بمعنى العلم ؛ كقوله :[الطويل]
٢٣١
٢٨٥٧ - فقُلْتُ لهُم : ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ
سراتهُم في الفَارسيِّ المُسَرَّدِ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٢٦