قوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً﴾ الآية.
لمَّا ذكر الدلائل الدَّالة على الإلهيَّة، وهي التَّمسُّك بخلق السموات والأرض، ثم فرع عليها صحَّة القول بالحشر والنشر، عاد إلى ذكر الدَّلائل الدَّالة على الإلهيَّة، وهي التمسُّك بأحوال الشمس والقمر، وهو إشارةٌ إلى توكيد الدَّليل على الحشر والنشر ؛ لأنَّه - تعالى - أثبت القول بالحشر والنشر بناءً على أنَّه لا بد من إيصالِ الثَّواب إلى أهل الطَّاعة، والعقاب إلى الكُفَّار، وأنَّه يجب تمييزُ المُحْسن عن المُسِيء.
ثم ذكر في هذه الآية أنَّه جعل الشمس ضياءً والقمر نُوراً وقدَّرَهُ منازل، ليتوصَّل المُكلَّف بذلك إلى معرفة السنين والحساب، فيُرتِّب مهمات معاشه وزراعته وحراثته، ويُعدَّ مهمات الشِّتاء والصَّيف، فكأنَّه تعالى يقول : تمييز المحسن على المسيء، أوجب وأوْلَى من تعليم أحوال السِّنين والشُّهُور، فلمَّا اقتضت الحكمة بخلق الشمس والقمر لهذا المهمِّ الذي لا نفع له فبأن تقتضي الحكمة والرَّحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت، مع أنَّه يقتضي النفع الأبَدِيّ والسعادة السَّرمديَّة كان أولى، فلمَّا كان الاستدلال بأحوال الشَّمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية ممَّا يدلُّ على التَّوحيد من وجهٍ، وعلى صحَّة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه، لا جرم ذكر الله تعالى هذا الدَّليل بعد ذكر الدَّليل على صحَّة المعاد.
قوله :" ضِيَاءً " : إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أنَّ الجعل للتصيير، وإمَّا حالٌ على أنَّه بمعنى الإنشاءِ، والجمهُور على " ضِيَاءً " بصريح اليَاءِ قبل الألف، وأصلها واو ؛ لأنَّه من الضَّوْء.
وقرأ قُنْبُل عن ابن كثيرٍ هنا وفي الأنبياء والقصص " ضِئَاء " بقلب الياء همزة، فتصير
٢٦٥
ألفٌ بين همزتين.
وأوِّلت على أنه مقلوبٌ قدِّمت لامُه وأخِّرت عينه، فوقعت الياءُ طرفاً بعد ألف زائدة فقلبت همزة على حدِّ " رِدَاء " وأرْدِية، وإن شئت قلت : لمَّا قلبت الكلمة صارت " ضِيَاواً " بالواو، عادت العين إلى أصلها من الواو لعدم موجب قلبها ياء وهو الكسر لسابقها، ثم أبدلت الواو همزة على حدِّ " كِسَاء ".
وقال أبو البقاء :" إنَّها قُلبتْ ألفاً، ثُمَّ قُلِبت الألفُ همزة، لئلاَّ تجتمع ألفان "، واستُبْعِدت هذه القراءة من حيث إنَّ اللغة مَبْنِيَّة على تسهيل الهمزِ فكيف يتخيَّلُون في قلب الحرفِ الخفيف إلى أثقل منه ؟ لا غرو في ذلك، فقد قلبُوا حروف العلَّة الألف والواو والياء همزةً في مواضع لا تُحْصرُ إلا بعُسْرٍ، إلاَّ أنه هنا ثقيلٌ ؛ لاجتماع همزتين.
وأكثر النَّاس على تغليط هذه القراءة ؛ لأنَّ ياء " ضِيَاء " منقلبة عن واو، مثل : ياء قيام، وصيام، فلا وجه للهمزة فيها، قال أبو شامة :" وهذه قراءةٌ ضعيفةٌ، فإنَّ قياس اللُّغةِ الفرارُ من اجتماع همزتين إلى تخفيفِ إحداهُمَا، فكيف يُتَخيَّل بتقديمٍ وتأخيرٍ يُؤدِّي إلى اجتماع همزتين لم يكونا في الأصل ؟ هذا خلافُ حكم اللُّغة ".
وقال أبو بكر بن مُجاهد - وهو ممَّنْ قرأ على قنبل - :" قرأ ابن كثير وحده " ضِئَاء " بهمزتين في كل القرآن الهمزة الأولى قبل الألف، والثانية بعدها، كذلك قرأتُ على قنبل وهو غلط، وكان أصحاب البزّي، وابن فليح يُنكرُونَ هذا ويقْرؤُون " ضِيَاء " مثل الناس ".
قال شهابُ الدِّين :" كثيراً ما يَتَجَرَّأ أبو بكر على شيخه ويُغَلِّطه، وسيمرُّ بكَ مواضع من ذلك، وهذا لا ينبغي أن يكون، فإنَّ قُنْبُلاً بالمكان الذي يمنع أن يتكلَّم فيه أحد ".
وقوله في جانب الشمس :" ضِيَاءً " ؛ لأنَّ الضوءَ أقوى من النُّور، وقد تقدم ذلك أوَّل البقرة و " ضِيَاء ونُوراً " يحتمل أن يكونا مصدرين، وجُعِلا نفسَ الكوكبين مبالغة، كما يقال للكريم : إنه كرم وجود، أو على حذف مضافٍ أي : ذاتِ ضياء وذا نُورٍ، و " ضِيَاء " يحتمل أن يكون جمع " ضَوْء " كسَوْط وسِيَاط، وحَوْض وحِيَاض.
قوله :" مَنَازِلَ " نُصب على ظرف المكان، وجعله الزمخشريُّ على حذفِ مضافٍ : إمَّا من الأول أي : قدَّر مسيره، وإمَّا من الثاني أي : قدَّرهُ ذا منازل، فعلى التقدير الأول يكون " مَنازِلَ " ظرفاً كما مَرّ، وعلى الثاني يكون مفعولاً ثانياً على تضمين " قدَّرَ " معنى صيَّره ذا منازل بالتقدير، وقال أبو حيَّان - بعد أن ذكر التقديرين، ولم يعزُهما للزمخشري : أو قَدَّر له منازل، فحذف وأوصل الفعل إليه، فانتصب بحسب هذه التَّقادير على الظَّرف أو الحال أو المفعول، كقوله :﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ [يس : ٣٩] وقد سبقهُ إلى ذلك أبُو البقاء.
٢٦٦


الصفحة التالية
Icon