والثالث : أن تكون جملة مستأنفة، أي : فنحنُ نذر الذين ؛ قاله الحوفي.
فصل المعنى :﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ : لا يخافون البعث، والحساب ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
قال أهل السنة : إنَّه - تعالى - لمَّا حكم عليهم بالطُّغيان والعمه، امتنع أن لا يكونوا كذلك، وإلا لزم أن يَنْقَلِبَ خبر الله تعالى الصِّدق كذباً، وعلمهُ جهلاً، وحكمه باطلاً، وكلّ ذلك محالٌ.
قوله تعالى :﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ﴾ : الجهد والشدة ﴿دَعَانَا لِجَنبِهِ﴾ أي : على جنبه مضطجعاً ﴿أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً﴾ يريد في جميع حالاته ؛ لأنَّ الإنسان لا يعدُو إحدى هذه الحالات، وفي كيفية النظم وجهان : الأول : أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّه لو أنزل العذاب على العبد في الدُّنيا، لهلك ولقُضِيَ عليه ؛ فبيَّن في هذه الآية ما يدُلُّ على ضعفه، ونهاية عجزه ؛ ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره، من أنَّه لو أنزل عليه العذاب لمات.
الثاني : أنه - تعالى - حكى عنهم : أنَّهُم يستعجلُون نُزُول العذاب، فبيَّن في هذه الآية، أنَّهم كاذبُون في ذلك الاستعجال ؛ لأنَّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يُؤذيه، فإنَّه يتضرَّعُ في إزالته عنه، فدلَّ على أنَّهُ ليس صادقاً في هذا الطَّلب.
قوله :" لِجَنْبِهِ " في محلِّ نصبٍ على الحال ؛ ولذلك عطف الحال الصَّريحة عليه، والتقدير : دعانا مضطجعاً لجنبه، أو مُلْقياً لجنبه، واللاَّمُ على بابها عند البصريين، وزعم بعضهم : أنَّها بمعنى :" عَلَى "، ولا حاجة إليه، واختلف في صاحب الحال : فقيل : الإنسان والعامل فيها " مسَّ "، قاله ابن عطية، ونقله أبو البقاء عن غيره، واستضعفه من وجهين : أحدهما : أنَّ الحال على هذا واقعةٌ بعد جواب " إذا "، وليس بالوجه، كأنه يعني : أنَّه ينبغي ألاَّ يجاب الشَّرطُ، إلاَّ إذا استوفى معمولاته، وهذه الحال معمولةٌ للشرط، وهو " مسَّ "، وقد أجيب قبل أن يستوفي معموله.
ثم قال :" والثاني : أن المعنى : كثرةُ دعائه في كلِّ أحواله، لا على أن الضُّرَّ يُصيبُهُ في كل أحواله، وعليه جاءت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن "، وقال أبو حيَّان :" وهذا الثاني يلزم فيه من مسِّه الضُّرَّ، دعاؤه في هذه الأحوال ؛ لأنَّه جوابُ ما ذكرت فيه هذه الأحوال، فالقَيْدُ في الشرط قيدٌ في الجواب، كما تقول : إذا جاءنا زيدٌ فقيراً أحْسَنَّا إليه، فالمعنى، أحْسَنَّا إليه في حال فَقْرِه ".
وقيل : صاحبُ الحال هو الضمير الفاعل في " دعانا "، وهو واضحٌ، أي : دعانا في
٢٧٧
جميع أحواله ؛ لأنَّ هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإنسان عن واحدةٍ منها.
فصل قيل : المراد بـ " الإنسان " هنا : الكَافِر.
وقيل : أبو حذيفة بن المغيرة، تصيبه البأساء والشدة والجهد، ﴿دَعَانَا لِجَنبِهِ﴾ أي : على جنبه مضطجعاً ﴿أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً﴾ وإنَّما أرادَ تسمية حالاته ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يعدُو هذه الحالات.
وقيل : وإنَّما بدأ بالمضطجع ؛ لأنَّه بالضُّر أشدّ في غالب الأمْرِ، فهو يدعُو أكثر، والاجتهاد فيه أشدّ، ثمَّ القاعد ثم القَائم.
وقيل : المراد بالإنسان : الجنسُ، وهذه الأحوال بالنسبة إلى المجموع، أي : مِنْهم من يدعُو مُسْتلقياً، ومنهم مَنْ يدعُو قَائِماً، أو يرادُ به شخصٌ واحدٌ، جمع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسب الأوقات، فيدعو في وقت على هذه الحال، وفي وقت على أخرى، والصحيحُ أنَّ المراد بـ " الإنسان " : الجنس، وقال آخرون : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به : الكافر، وهذا باطل ؛ لقوله :﴿ يا أيها الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ [الإنشقاق : ٦، ٧] لا شبهة في أنَّ المؤمنَ داخلٌ، وكذا قوله :﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ﴾ [الإنسان : ١]، وقوله :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون : ١٢]، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق : ١٩]، والحقُّ : أنَّ اللفظ المفرد، المحلَّى بالألف واللام، إن حصل معهودٌ سابقٌ، صرف إليه، وإن لم يحصل معهودٌ سابقٌ، حمل على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتَّعطيل، وقال صاحبُ النَّظْم : قوله ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ﴾ وضعهُ للمستقبل، وقوله :﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا﴾ للماضي، فهذا النَّظْمُ يدلُّ على أنَّ معنى الآية يدل : على أنَّهُ كان هكذا فيما مضى، وهكذا يكون في المستقبل، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل، وما فيه من الماضي، على الماضي ".
قوله :﴿كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ﴾ قد تقدَّم الكلامُ على مثل هذا، عند قوله :﴿كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ﴾ [النساء : ٧٣]، تقديره : كأنَّه لم يدعنا، ثم أسقط الضمير تخفيفاً، كقوله تعالى ﴿كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا ااْ﴾ [يونس : ٤٥] قال الزمخشري :" فحذف ضمير الشَّأن ؛ كقوله :[الهزج] ٢٨٨٠ -...........................