وقوله :" الحديثُ يدلُّ على إثبات الوجه، وذلك يوجب التشبيه "، فنقولُ : قام الدَّليل على أنَّه - تعالى - ليس بجسم، ولم يقم الدَّليلُ على امتناع الرُّؤية، فوجب ترك العمل بما قام الدَّليل على فساده.
فصل قال أبو العبَّاس المقري : وردت الحُسْنَى على أربعة معان : الأول : بمعنى الجنَّة، قال - تعالى - :﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس : ٢٦].
الثاني : الحسنى : الصَّلاح، قال - تعالى - :﴿وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى ﴾ [التوبة : ١٠٧] أي : الصَّلاح.
الثالث : البنون، قال - تعالى - :﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى ﴾ [النحل : ٦٢] أي : البنُون.
الرابع : الخلف في النفقة، قال - تعالى - :﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ [الليل : ٥ - ٦] أي : بالخلف، ومثله ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾ [الليل : ٩].
قوله :" وَلاَ يَرْهَقُ " فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنها مستأنفةٌ.
والثاني : أنها في محل نصب على الحال، والعامل في هذه الحال : الاستقرار الذي تضمَّنَهُ الجارُّ، وهو " للَّذين " لوقوعه خبراً عن " الحُسْنَى "، قاله أبو البقاء، وقدَّره بقوله :" استقرَّ لهم الحسنى، مضموناً لهم السَّلامة "، وهذا ليس بجائزٍ ؛ لأنَّ المضارع متى وقع حالاً منْفيَّا بـ " لا "، امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت، وإن ورد ما يُوهم ذلك، يُؤوَّل بإضمار مبتدأ، وقد تقدَّم تحقيقه مراراً [المائدة : ٥٤].
والثالث : أنها في محلِّ رفع نسقاً على " الحُسْنَى "، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدريٍّ، يصحُّ جعلُه معه مخبراً عنه بالجارِّ، والتقدير : للذين أحسنوا الحسنى، وأنْ لا يرهق، أي : وعدم رهقهم، فلمَّا حذفت " أنْ " رفع الفعلُ المضارع ؛ لأنَّه ليس من مواضع إضمار " أن " الناصبة، وهذا كقوله - تعالى - :﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ﴾ [الروم : ٢٤] أي : أن يريكم، وقوله :" تسْمَع بالمُعَيدي، خيرٌ من أن تراه ".
وقوله :[الطويل] ٢٨٨٩ - ألاَ أيُّهَا الزَّاجري أحْضُرُ الوغَى
.......................
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٠٤
أي.
أن أحضر، روي برفع " أحْضُر " ونصبه، ومنع أبو البقاء هذا الوجه، وقال :" ولا يجوز أن يكون معطوفاً على " الحُسْنَى " ؛ لأنَّ الفعل إذا عطف على المصدر، احتاج
٣٠٧
إلى " أنْ " ذكراً، أو تقديراً، و " أنْ " غير مقدَّرة ؛ لأن الفعل مرفوعٌ ".
فقوله :" وأنْ غيرُ مقدَّرةٍ ؛ لأنَّ الفعل " مرفوع " ليس بجيِّد ؛ لأن قوله - تعالى - :﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ﴾ [الروم : ٢٤] معه " أنْ " مقدَّرة، مع أنه مرفوع، ولا يلزم من إضمار " أنْ " نصب المضارع، بل المشهور أنَّهُ : إذا أضمرت " أنْ " في غير المواضع التي نصَّ النحويُّون على إضمارها فيها ناصبة، ارتفع الفعلُ، والنصب] قليلٌ جدّاً.
فصل والرَّهق : الغشيان، يقال : رَهِقَهُ يَرْهقُه رَهَقاً، أي : غشيهُ بسرعة، ومنه ﴿وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي﴾ [الكهف : ٧٣]، ﴿فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً﴾ [الجن : ١٣].
يقال : رَهِقْتُه وأرْهَقْتُه نحو : رَدِفْتُه وأرْدَفْتُه، ففعل وأفعل بمعنًى، ومنه :" أرْهَقْت الصَّلاة "، إذا أخَّرْتَها، حتى غَشِي وقتُ الأخرى، ورجلٌ مُرْهقٌ، أي : يغشاه الأضياف.
وقال الأزهريُّ :" الرَّهَقُ : اسم من الإرهاق، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيقُ، ويقال : أرْهَقْتُهُ عن الصَّلاةِ، أي : أعْجَلْتُه عنها ".
وقال بعضهم : أصل الرَّهقِ، المقاربةُ، ومنه غلامٌ مراهقٌ، أي : قارب الحلم، ومنه الحديث " ارْهَقُوا القبلة "، أي : أقربُوا منها، ومنه : رهقت الكلابُ الصَّيدَ، أي : لحقته، والقَتَر والقَتَرة، الغُبَارُ معه سوادٌ ؛ وأنشدوا للفرزدق :[البسيط] ٢٨٩٠ - مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ المُلْكِ يتْبَعُهُ
مَوْجٌ تَرَى فوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا
أي : غبار العسكر، وقيل : القَتَرُ : الدُّخان، ومنه : قُتارُ القِدْر، وقيل : القَتْر : التَّقليل، ومنه ﴿لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ﴾ [الفرقان : ٦٧]، ويقال : قَتَرْتُ الشَّيء وأقْتَرْتُهُ وقتَّرته، أي : قَلَّلتُه، ومنه ﴿وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ﴾ [البقرة : ٢٣٦] وقد تقدَّم، والقترة، نامُوس الصَّائد، وقيل : الحفرة، ومنه قول امرىء القيس :[المديد] ٢٨٩١ - رُبَّ رامٍ بَنِي ثُعلٍ
مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِه
أي : في حُفرتهِ التي يحفُرها، وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر، وأبو رجاء، والأعمش :" قَتْرٌ "، بسكون التاء، وهما لغتان : قَتْر وقَتَر، كقَدْر وقَدَر.
٣٠٨


الصفحة التالية
Icon