فصل المعنى : لا يَغْشَى وجوههم قتر : غبار، جمع قترة، وقال ابن عبَّاس، وقتادة : سواد الوُجُوه، " ولا ذلَّةٌ " : هوان، وقال قتادة :" كآبة " قال ابن أبي ليلى :" هذا بعد نظرهم إلى ربِّهم "، ﴿أُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ إشارة إلى كونها دائمة، آمنة من الانقطاع.
قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ﴾ الآية.
لمَّا شرح حال المسلمين، شرح بعدهُ حال المُسيئين.
قوله :﴿وَالَّذِينَ كَسَبُواْ﴾ : فيه سبعةُ أوجه : أحدها : أن يكون " والذين " : نسقاً على " لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ "، أي : لِلَّذينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى، والذين كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جزاءُ سيِّئةٍ بمثلها، فيتعادل التَّقسيم، كقولك : في الدَّار زيدق، والحجرة عمرٌو، وهذا يسمِّيه النحويُّون : عطفاً على معمولي عاملين، وفيه ثلاثة مذاهب : أحدها : الجواز مطلقاً، وهو قول الفرَّاء.
والثاني : المنعُ مطلقاً، وهو مذهبُ سيبويه.
والثالث : التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو : في الدَّار زيدٌ، والحجرة عمرو، فيجوز، أو لا، فيمتنع نحو : إن زيداً في الدَّار، وعمراً في القصر، أي : وإنَّ عمراً في القصر، وسيبويه وأتباعهُ يُخَرِّجُون ما ورد منه على إضمار الجارِّ، كقوله - تعالى - :﴿وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الجاثية : ٥] بنصب " آيَات " في قراءة الأخوين، على ما سيأتي ؛ كقوله :[المتقارب] ٢٨٩٢ - أكُلَّ امرىءٍ تَحْسَبينَ امْرَأ
ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٠٤
وقول الآخر :[الرجز] ٢٨٩٣ - أوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قَلْباً حُرّاً
بالكَلْبِ خَيْراً والحَمَاةِ شَرًّا
٣٠٩
وسيأتي لهذا مزيد بيان - إن شاء الله -، وممَّن ذهب إلى أنَّ هذا الموصول مجرورٌ عطفاً على الموصول قبله : ابن عطيَّة، وأبو القاسم الزمخشري.
الثاني : أن " الَّذينَ " مبتدأ، و " جَزَآءُ سَيِّئَةٍ " مبتدأ ثانٍ، وخبره " بمثلها "، والباء فيه زائدةٌ، أي : وجزاءُ سيئةٍ مثلها، كقوله - تعالى - :﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى : ٤٠] كما زيدتْ في الخبرِ، كقوله :[الوافر] ٢٨٩٤ - فَلاَ تَطْمَعْ - أبَيْتَ اللَّعنَ - فيها
ومنْعُكُهَا بشيءٍ يُسْتَطَاعُ
أي : شيء يُستطاع.
وكقول امرىء القيس :[الطويل] ٢٨٩٥أ - فإنْ عنْهَا حِقْبَةً لا تُلاقِهَا
فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
أي : المُجرِّب، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية.
الثالث : أنَّ الباء ليست بزائدةٍ، والتقدير : مقدَّر بمثلها، والمبتدأ الثاني وخبرُهُ خَبَرٌ عن الأول.
والرابع : أنَّ خبر " جزاء سيَّئةٍ " محذوفٌ، فقدَّرهُ الحُوفيُّ بقوله :" لهم جزاءُ سيئة "، قال : ودلَّ على تقدير " لَهُمْ "، قوله :﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ﴾ حتى تتشاكل هذه بهذه، وقدَّرهُ أبو البقاء : جزاءُ سيِّئة مثلها واقع، وهُو وخبرُهُ أيضاً خبرٌ عن الأول، وعلى هذين التقديرين، فالباء متعلقةٌ بنفس " جزاءُ " ؛ لأنَّ هذه المادَّة تتعدَّى بالباءِ، قال - تعالى - :﴿جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ﴾ [سبأ : ١٧]، ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ﴾ [الإنسان : ١٢] إلى غير ذلك.
فإن قلت : أين الرَّابطُ بين هذه الجملة، والموصول الذي هو المبتدأ.
قلت : على تقدير الحوفيُّ، هو الضمرُ المجرور باللاَّم المقدَّر خبراً، وعلى تقدير أبي البقاء : هو محذوفٌ، تقديره : جزاءُ سيئة بمثلها منهُم واقعٌ، نحو :" السَّمْنُ منوانِ بدرهم "، وهو حذفٌ مُطَّرِد، لما عرف.
الخامس : أن يكون الخبرُ، الجملة المنفيَّة من قوله :﴿مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾، ويكون " مِنْ عَاصمٍ " إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله ؛ لاعتماده على النَّفي، وإمَّا مبتدأ، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه، و " مِنْ " مزيدة فيه على كلا القولين، و " مِنَ الله " متعلِّق بـ " عَاصِم "، وعلى
٣١٠


الصفحة التالية
Icon