أي : يفارقه.
وقوله - تعالى - :" فَزيَّلْنا "، و " قال " هذان الفعلان ماضيان لفظاً، مستقبلان معنًى ؛ لعطفهما على مستقبل، وهو " ويَوْمَ نَحْشُرهُمْ "، وهما نظيرُ قوله - تعالى - :﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ﴾ [هود : ٩٨].
و " إِيَّانَا " : مفعولٌ مقدمٌ، قُدِّم للاهتمام به والاختصاص، وهو واجبُ التَّقديم على ناصبه ؛ لأنَّه ضميرٌ منفصلٌ، لو تأخَّر عنه، لزم اتِّصاله، وقد تقدَّم الكلامُ على ما بعد هذا من " كَفَى " المخففة، واللاَّم التي بعدها، بما يُغْنِي عن الإعادة.
[البقرة١٩٨].
فصل المعنى " ويَوْمَ نَحْشُرهُمْ " العابد والمعبُود، ثمَّ إن المعبود يتبرَّأ من العابد، ويتبيَّن لهُ أنَّه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته، ونظيرهُ قوله - تعالى - :﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ﴾ [البقرة : ١٦٦]، وقوله :﴿ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـاؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ : ٤٠].
و " الحَشْر " : الجمع من كل جانبٍ إلى موقفٍ واحدٍ ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ﴾ أي : الزَمُوا مكانكم " وشُرَكاؤكُم " يعني : الأوثان، حتَّى تسألوا، " فزيَّلْنَا بَيْنَهُم "
٣١٦
أي : ميَّزنا وفرَّقنا بينهم، وجاءت هذه الكلمة على لفظ الماضي، بعد قوله :" ثُمَّ نقُولُ " وهو مستقبل ؛ لأنَّ ما جاءكم الله بِهِ، سيكون صار كالكائن الآن، كقوله :﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف : ٤٤].
وأضاف الشُّركاء إليهم ؛ لأنَّهم جعلُوا لهم نصيباً من أموالهم.
وقيل : لأنَّ الإضافة يكفي فيها أدنى تعليق، فلمَّا كان الكُفَّار هُم الذين أثبتُوا هذه الشَّركة، حسنت إضافة الشركاءِ إليهم، وقيل : لمَّا خاطب العابدين والمعبودين بقوله " مَكانَكُم " صارُوا شُركاء في هذا الخطاب.
قال بعض المُفسِّرين : المراد بهؤلاء الشُّركاء : الملائكة، واستشهدُوا بقوله - تعالى - :﴿ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـاؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ : ٤٠]، وقيل : هم الأصنام، ثم اختلف هؤلاء كيف ذكرت الأصنام هذا الكلام ؟ فقيل : إن الله - تعالى - يخلقُ فيها الحياة والعقل والنُّطق، وقيل : يخلق فيهم الرُّوح من غير حياةٍ، حتَّى يسمعُوا منهم ذلك.
فإن قيل : إذا أحياهُم الله هل يبقيهم أو يفنيهم ؟.
فالجوابُ : أنَّ الكلَّ محتملٌ، ولا اعتراض على الله في أفعاله، وأحوال القيامة غير معلومة، إلاَّ القليل، ولا شك أن هذا خطاب تهديدٍ في حق العابدين، فهل يكُون تهديداً في حق المعبودين ؟ قالت المعتزلة : لا يجُوزُ ذلك ؛ لأنَّه لا ذنب للمعبود، ومن لا ذنب له، لم يصحَّ تهديده، وتخويفه، وقال أهلُ السُّنَّة : لا يسأل عما يفعل.
فإن قيل : قول الشركاء :﴿مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ وهم كانوا قد عبدوهم، يكون كذباً، وقد تقدَّم في سورة الأنعام، اختلاف الناس في أنَّ أهل القيامة هل يكذبون أم لا ؟.
والجواب ههنا : أنَّ منهم من قال : المراد من قولهم :" مَا كُنتُمْ إيَّانَا تَعْبُدُونَ " : هو أنَّكُم ما عبدْتُمُونَا بأمرنا وإرادتنا ؛ لأنَّهم استشهدوا بالله في ذلك بقولهم :﴿فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾، وبقولهم :﴿إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ﴾، ومن النَّاس من أجْرَى الآية على ظاهرها، وقالوا : إنَّ الشُّركاء أخبروا أنَّ الكفار ما عبدوها لوجوه : الأول : أنَّ ذلك الموقف موقفُ دهشة وحيرة، فذلك الكذبُ جارٍ مجرى كذب الصبيان، والمجانين والمدهوشين.
الثاني : أنَّهم ما أقامُوا لأعمال الكُفَّار وزناً، وجعلوها لبطلانها كالعدم، فلهذا قالوا : ما عبدونا.
الثالث : أنهم تخيَّلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة، فهم في الحقيقة إنَّما عبدوا ذواتاً موصوفة بتلك الصفات، ولمَّا كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات، فهم ما عبدوها، وإنما عبدوا أموراً تخيَّلُوها ولا وجود لها في الأعيان، وتلك الصِّفات التي تخيَّلوها في الأصنام : أنها تضرُّ، وتنفع، وتشفع عند الله.
٣١٧
قوله تعالى :﴿هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ﴾ الآية.
في " هُنالِكَ " وجهان : أظهرهما : بقاؤه على أصله، من دلالته على ظرف المكان، أي : في ذلك الموقف الدَّحض، والمكان الدَّهش.
وقيل : هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة، ومثله ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [الأحزاب : ١١]، أي : في ذلك الوقت ؛ وكقوله :[الكامل] ٢٨٩٩ - وإذَا الأمُورُ تَعاظَمَتْ وتَشاكَلَتْ
فهُناكَ يَعْترِفُون أيْنَ المفْزعُ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣١٤
وإذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه، فهو أولى.
وقرأ الأخوان " تَتْلُو " بتاءين منقوطتين من فوق، أي : تطلب وتتبع ما أسلفته من أعمالها، ومن هذا قوله :[الرجز] ٢٩٠٠ - إنَّ المُريبَ يتْبَعُ المُرِيبَا
كَمَا رَأيْتَ الذِّيبَ يتلُو الذِّيبَا


الصفحة التالية
Icon