النَّقيضين يمتنع أن يكونا حقَّين، وأن يكونا باطلين، فإذا كان أحدهما حقّاً، وجب كون ما سواه باطلاً، ثم قال ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ أي : كيف تَعْدلُون عن عبادته، وأنتُم مُقِرُّون بذلك.
قال الجُبَّائي : دلَّت هذه الآية على بطلان قول المُجبِّرة : أنَّه - تعالى - يصرف الكُفَّار عن الإيمان ؛ لأنَّه لو كان كذلك، لما جاز أن يقول ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ كما لا يقول إذا عمي أحدهم إني عميتُ، وسيأتي جوابه.

فصل المعنى : أنَّ الذي يفعل هذه الأشياء، هو ربُّكم الحقُّ، لا ما أشركتُم معه.


قال بعضُ المتقدِّمين : ظاهرُ هذه الآية، يدلُّ على أنَّ ما بعد الله، هو الضلالُ ؛ لأنَّ أوَّلها ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾، وآخرها ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾ فهذا في الإيمان، والكفر ليس في الأعمال، وقال بعضهم : إنَّ الكفر تغطية الحقِّ، وكل ما كان غير الحقِّ، جرى هذا المجرى، فالحرام ضلالٌ، والمُبَاحُ هُدًى، فإن الله هو المبيحُ، والمحرِّم.
فصل قال القرطبي :" رُوي عن مالك، في قوله تعالى :﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾ قال اللَّعبُ بالشطرنج والنَّرد من الضلال، وسئل مالكٌ : عن الرَّجُل يلعبُ في بيته، مع امرأته بأربعة عشرة، فقال : ما يُعْجِبني، ليس من شأن المُؤمن، قال - تعالى - :﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾، وسئل مالكٌ : عن اللَّعبِ بالشطرنج، فقال : لا خَيْرَ فيه وهو من الباطل، واللَّعبُ كلُّه من الباطل ".
وقال الشَّافعيُّ :" لاعب الشطرنج، وغيره - إذا لم يكن على وجه القمار - لا تُرَدّ شهادتهُ إذا كان عدْلاً، ولمْ تظهرْ منه ريبةٌ، ولا كبيرةٌ، فإن لعب بها قُماراً، وكان معروفاً بذلك، سقطت عدالتُهُ، لأكله المال بالباطل، وقال أبُو حنيفة :" يُكرَه اللعب بالشطرنج، والنَّرد، والأربعة عشر، وكل اللَّهْو فإن لم تظهر من اللاَّعب بها كبيرةٌ، وكانت مساوئه قليلة، قُبلتْ شهادته ".
قال ابن العربي :" قال الشَّافعية : إنَّ الشطرنج يخالف النَّرد، لأنَّ فيه إكدار الفكر، واستعمال القريحة، وأمَّا النَّرْد : فلا يعلم ما يخرجُ له، فهو كالاستقسام بالأزلام ".
وأنَّ النَّرد هو الذي يعرفُ بالباطل، ويعرف في الجاهليَّة بالأزلام، ويعرف أيضاً بالنَّردشير، وروي أنَّ ابن عمر، مرَّ بغلمان يعلبُون بالكجَّة، وهي حُفَر فيها حصى، يلعبُون بها، فسدَّها ابنُ عمر، ونهاهم عنها.
ذكر الهروي في باب الكاف مع الجيم، في حديث ابن عبَّاس : في كل شيءٍ قمار،
٣٢١
حتى في لعب الصبيان بالكُجَّةِ، وقال ابن الأعرابي :" الكجَّة هي : أنْ يأخذ الصبيُّ خرقةً، فيدورها كأنَّها كُرةً ثم يتقامرُون بها ".
قوله :" كَذَلِكَ حَقَّتْ " : الكافُ في محلِّ نصبٍ، نعتاً لمصدرٍ محذوف، والإشارةُ بذلك إلى المصدر المفهوم من " تُصْرَفُون "، أي : مثل صَرْفِهم عن الحقِّ، بعد الإقرار به، في قوله - تعالى - :﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾، وقيل إشارةٌ إلى الحقِّ.
قال الزمخشري :" كذلك : مثل ذلك الحقِّ حقَّت كلمةُ ربِّك ".
قوله :﴿أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ فيه أربعة أ وجه : أحدها : أنَّها في محلِّ رفع ؛ بدلاً من " كَلِمةُ "، أي : حقَّ عليهم انتفاءُ الإيمان.
الثاني : أنَّها في محلِّ رفعٍ، خبراً لمبتدأ محذوف، أي : الأمر عدمُ إيمانهم.
الثالث : أنَّها في محلِّ نصب، بعد إسقاطِ الحرف الجارِّ.
الرابع : أنَّها في محلِّ جرٍّ، على إعماله محذوفاً، إذ الأصل : لأنَّهم لا يُؤمِنُون.
قال الزمخشري :" أو أراد بالكلمة، العِدَة بالعذاب، و ﴿أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ تعليلٌ، أي : لأنَّهم "، وهذا إنباء على مذهبهم.
وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، والكوفيون :" كَلِمَات " بالجمع، وكذا في آخر السورة [يونس : ٩٦]، وتقدَّم ذلك في الأنعام، وقرأ ابنُ أبي عيلة :" إَِنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ " بكسر " إنَّ " على الاستئناف، وفيها معنى التَّعليل، وهذا يُقَوِّي الوجه الصَّائر إلى التَّعليل.
فصل احتجَّ أهل السنة بهذه الآية : على أنَّ الكفر بقضاء الله، وإرادته، لأنه - تعالى - أخبر عنهم قطعاً أنَّهم لا يؤمنون، فلو آمنوا، لكان إمَّا أن يبقى ذلك الخبر صدقاً، أو لا، والأوَّل باطلٍ ؛ لأنَّ الخبر بأنَّه لا يؤمن، يمتنع أن يبقى صدقاً حال ما يُوجد الإيمان.
والثاني باطلٌ ؛ لأنَّ انقلاب خبر الله - تعالى - كذباً محالٌ، فثبت أنَّ صدور الإيمان منهم محالٌ، والمحالُ لا يكون مراداً، فثبت أنَّه - تعالى - ما أراد الإيمان من هذا الكافر، وأنَّه أرادَ الكُفْر منه.
ثم نقول إن كان قوله :﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ يدلُّ على صحَّة مذهب القدريَّة، فهذه الآيةُ الموضوعة بجنبه تدلُّ على فساده، وقد كان الواجبُ على الجُبَّائيِّ مع قوة خاطره، حين استدلَّ بتلك الآية على صحَّة قوله، أن يذكُر هذه الحجَّة، ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده، والمراد بـ " الكلمة " : حكمةُ السَّابق على الذينَ فَسَقُوا، أي : كفرُوا.
٣٢٢


الصفحة التالية
Icon