وهذه حجَّة ثالثة.
واعلم أنَّ الاستدلالَ على وجودِ الصَّانع بالخلق أولاً، ثم بالهداية ثانياً، عادة مُطَّردة في القرآن، قال - تعالى - حكاية عن الخليلي عليه الصلاة والسلام :﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء : ٧٨]، وحكى عن موسى - عليه الصلاة والسلام - في جواب لفرعون :﴿رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه : ٥٠]، وأمر محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - فقال :﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [الأعلى : ١ - ٣].
واعلم أنَّ الإنسان له جسدٌ وروحٌ، فالاستدلال على وجود الصَّانع بأحوال الجسد، هو الخلق، والاستدلال بأحوال الرُّوح، هو الهدايةُ.
والمقصودُ من خلق الجسدِ : حصول الهداية للرُّوح، كما قال - تعالى - :﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل : ٧٨]، وهذا كالتَّصريح بأنَّه تعالى إنَّما خلق الجسد، وأعطى الحواسّ ؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف، والعلم.
قوله :﴿يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ﴾، قد تقدَّم في أول الكتاب : أنَّ " هَدَى " يتعدَّى إلى اثنين ثانيهما : إمَّا باللاَّم أو بإلى، وقد يحذفُ الحرفُ تخفيفاً [الفاتحة : ٦]، وقد جمع بين التعديتين هنا بحرف الجر، فعدَّى الأول والثالث بـ " إلى "، والثاني باللاَّم، وحذف المعفول الأول من الأفعال الثلاثة، والتقدير : هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق، قل الله يهدي من يشاء للحقِّ، أفمنْ يهدي غيره إلى الحقِّ، وزعم الكسائي، والفرَّاء، وتبعهما الزمخشري : أنَّ " يَهْدِي " الأول قاصرٌ، وأنَّه بمعنى : اهتدى، وفيه نظر ؛ لأنَّ مقابله، وهو ﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ متعدٍّ، وقد أنكر المبرِّدُ أيضاً مقالة الكسائي، والفراء، وقال : لا نَعْرِفُ " هَدَى " بمعنى :" اهتدى ".
قال شهاب الدِّين " الكسائي والفرَّاء أثبتاه بما نقلاه، ولكن إنَّما ضعف ذلك هنا ؛ لما ذكرتُ لك من مقابلته بالمتعدِّي، وقد تقدَّم أنَّ التعدية بـ " إلى " أو اللاَّم، من باب التَّمن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري :" يقال : هداه للحقِّ وإلى الحقِّ، فجمع بين اللغتين "، وقال غيره :" إنَّما عدَّى المسند إلى الله باللاَّم ؛ لأنَّها أدلُّ في بابها على المعنى المراد من " إلى " ؛ إذ أصلها لإفادة الملك، فكأنَّ الهداية مملوكةٌ لله - تعالى - ".
وفيه نظر ؛ لأنَّ المراد بقوله :﴿أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ﴾ هو الله - تعالى -، مع تعدِّي الفعل المسند إليه بـ " إلى ".
قوله :﴿أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ﴾ : خبرٌ لقوله :" أَفَنْ يَهْدِى "، و " أنْ " في موضع نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذف الخافض، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، وتقدير هذا كلّه : أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يهدي.
ذكر ذلك مكِّي بن أبي طالب، فجعل " أحَقُّ " هنا على بابها من كونها للتفضيل، وقد منع أبو حيَّان كونها للتَّفضيل، فقال : و " أحَقُّ " ليست للتفضيل، بل المعنى :" حَقيقٌ بأن يُتَّبع "، وجوَّز مكِّي أيضاً في المسألة وجهين آخرين :
٣٢٤


الصفحة التالية
Icon