أحدهما : أن تكون " مَنْ " مبتدأ أيضاً، و " أنْ " في محلِّ رفعٍ، بدلاً منها بدل اشتمال، و " أحَقُّ " خبرٌ على ما كان.
والثاني : أن يكون " أنْ يُتَّبَع " في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و " أحَقُّ " خبره مقدَّمٌ عليه.
وهذه الجملة خبر لـ " مَنْ يَهْدِي "، فتحصَّل في المسألة ثلاثة أوجُه.
قوله :﴿أَمَّن لاَّ يَهِدِّى ﴾ : نسقٌ على " أفَمَنْ "، وجاء هنا على الأفصح، مِنْ حيث إنَّهُ قد فصل بين " أمْ " وما عُطفتْ عليه بالخبر، كقولك : أزَيْدٌ قائمٌ أم عمرو، ومثله :﴿أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ﴾ [الفرقان : ١٥]، وهذا بخلاف قوله - تعالى - :﴿أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء : ١٠٩] وسيأتي هذا في موضعه، وقرأ أبو بكر عن عاصم : بكسر ياء " يهدِّي " وهائه، وحفص بكسر الهاء دون الياء، فأما كسر الهاء ؛ فلالتقاء الساكنين، وذلك أنَّ أصله " يَهْتَدِي "، فلمَّا قُصِدَ إدغامُه سكنتِ التاء، والهاءُ قبلها ساكنة، فكسرت الهاءُ لالتقاء الساكنين، وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر، وقال أبو حاتم : في قراءة حفصٍ " هي لغة سُفْلَى مُضَرَ ".
ونقل عن سيبويه : أنَّه لا يجيز " يِهْدِي "، ويجيز " تِهْدِي، وإهْدِي "، قال :" لأنَّ الكسرة تثقلُ في الياء "، يعني : يُجيز كسر حرفِ المضارعة من هذا النَّحو، نحو : تِهْدِي ونِهْدِي وإِهْدِي، إذ لا ثقل في ذلك، ولم يجزهُ في الياء ؛ لثقل الحركة المجانسةِ لها عليها، وهذا فيه غضٌّ من قراءة أبي بكرٍ، لكنه قد تواتر قراءة، فهو مقبولٌ، وقرأ أبو عمرو وقالون، عن نافع : بفتح الياء، واختلاس فتحة الهاء، وتشديد الدَّال، وذلك أنَّهُمَا لمَّا ثقَّلا الفتحة للإدغام، اختلسا الفتحة ؛ تنبيهاً على أنَّ الهاءَ ليس أصلها الحركة، بل السُّكون، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وورش : بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل، وقد رُوي عن أبي عمرو، وقالوا : اختلاسُ كسرةِ الهاءِ، على أصل التقاء الساكنين، والاختلاسُ للتنبيه على أنَّ أصل الهاءِ السُّكون كما تقدَّم، وقرأ أهلُ المدينة - خلا ورشاً - بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدَّال، وهذه القراءةُ استشكلها جماعةٌ من حيث الجمع بين السَّاكنين، قال المبرد :" مَنْ رَامَ هذا، لا بد أن يحرك حركة خفيَّة " قال أبو
٣٢٥
جعفر النَّحاس : لا يقدر أحدٌ أن ينطقَ به.
قال شهاب الدِّين :" وقد قال في التيسير :" والنَّصُّ عن قالون بالإسكان "، قلت : ولا بعد في ذلك ؛ فقد تقدَّم أنَّ بعض القُرَّاء يَقْرَأ ﴿نِعْمَّا﴾ [النساء : ٥٨] و ﴿لاَ تَعْدُواْ﴾ [النساء : ١٥٤] بالجمع بين الساكنين، وتقدَّمت لك قراءاتٌ كثيرة، في قوله ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة : ٢٠]، وسيأتي مثل هذا في ﴿يَخِصِّمُونَ﴾ [يس : ٤٩].
وقرأ الأخوان " يَهْدِي " بفتح الياء، وسكون الهاء، وتخفيف الدال، من هدى يَهْدي، وفيه قولان : أحدهما : أنَّ " هَدَى " بمعنى : اهتدى.
والثاني : أنَّه متعدٍّ، ومفعوله محذوفٌ كما تقدَّم، وتقدم في قول الكسائي، والفرَّاء في ذلك، وردُّ المبرد عليهما.
وقال ابن عطيَّة :" والذي أقول : قراءةُ حمزة، والكسائيُّ ؛ تحتمل أن يكون المعنى : أمْ مَنْ لا يهدي أحداً، إلاَّ أنْ يهدي ذلك الأحدُ بهداية الله، وأمَّا على غيرها من القراءات التي مقتضاها : أمْ مَنْ لا يهتدي، إلاَّ أنْ يُهْدَى.
فيتجه المعنى على ما تقدَّم "، ثم قال :" وقيل : تمَّ الكلامُ عند قوله :" أمْ مَنْ لا يَهَدِّي "، أيك لا يهدِّي غيره "، ثم قال :" إلاَّ أنَّ يَهْدَى : استثناءٌ منقطع، أي : لكنه يحتاجُ إلى أن يُهْدَى، كما تقول : فلانُ لا يسمع غيره، إلاَّ أنْ يسمع، أي : لكنَّه يحتاجُ إلى أن يسمع ".
انتهى، ويجوز أن يكون استثناءً متصلاً ؛ لأنَّه إذ ذاك يكون فيهم قابليَّةُ الهداية، بخلافِ الأصنام، ويجوز أن يكون استثناء من تمامِ المفعول له، أي : لا يهدي لشيءٍ من الأشياء، إلاَّ لأجْل أن يُهْدَى بغيره.
قوله :" فَمَا لَكُمْ " : مبتدأ وخبر، ومعنى الاستفهام هنا : الإنكارُ والتعجُّبُ، أي : أيُّ شيءٍ لكم في اتِّخاذ هؤلاء ؛ إذا كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم ؟ وقد تقدَّم : أنَّ بعض النحويين نصَّ على أنَّ مثل هذا التركيب، لا يتمُّ إلاَّ بحالٍ بعده، نحو :﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر : ٤٩]، ﴿وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ﴾ [المائدة : ٨٤] إلى غير ذلك، وهنا لا يمكن أن تقدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً ؛ لأنَّها استفهاميَّة، والاستفهاميَّة لا تقع حالاً.
وقوله :﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ : استفهامٌ آخر، أي : كيْفَ تحكمُونَ بالباطل، وتجعلُون لله أنْداداً، وشُركاء ؟.
٣٢٧


الصفحة التالية
Icon