فصل المعنى :﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِى ﴾ : يرشد، " إِلَى الْحَقِّ " فإذا قالوا : لا، ولا بدَّ لهم من ذلك ﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ أي : إلى الحقِّ ﴿أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى ﴾ أي : الله الذي يهدي إلى الحقِّ أحق بالاتِّباع، أم الصَّنم الذي لا يهتدي، إلاَّ أنْ يُهْدَى ؟ فإن قيل : الأصنام جمادات لا تقبل الهداية، فكيف قال :﴿إِلاَّ أَن يُهْدَى ﴾، والصَّنَمُ لا يتصوَّر أن يهتدي، ولا أنْ يُهْدَى ؟ فالجواب من وجوه : أحدها : أنَّ المراد من قوله :﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ الأصنام، والمراد من قوله :﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ﴾ : رؤساء الكفر، والضلال، والدعاة إليهما ؛ لقوله - تعالى - :﴿اتَّخَذُوا ااْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة : ٣١] إلى قوله :﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة : ٣١] أي : أن الله - تعالى - هدى الخلق إلى الدِّين، بالدَّلائل العقليَّة، والنقليَّة، وهؤلاء الدُّعاة لا يقدرون أن يهدُوا غيرهم، إلاَّ إذا هداهم الله، فكان التَّمسك بدين الله، أولى من قُبُول قول هؤلاء الجهال.
وثانيها : أن معنى الهداية في حقِّ الأصنامِ : الانتقال، والهدى : عبارة عن النَّقل والحركة، يقال : أهديت المرأة إلى زوجها، إذا انتقلت إليها، والهَدْيُ : ما يُهْدى إلى الحرم من النَّعَم، وسميت الهديَّةُ هديَّة ؛ لانتقالها من شخص إلى غيره، وجاء فلان يهادى بين رجلين، إذا كان يمشي مُعْتمداً عليهما ؛ لضعفه وتمايله.
وإذا ثبت ذلك فالمرادُ : أنَّه لا ينتقل من مكان إلى مكان، إلاَّ أن يحمل وينقل بين عجز الأصنام.
وثالثها : أنه ذكر الهداية على وجه المجاز ؛ لأنَّ المشركينَ لمَّا اتَّخذُوا الأصنام آلهةً، وأنَّها لا تشفع لهم في الآخرة، وأنَّهم نزَّلُوها منزلة من يعقل، فلذلك عبَّر عنها كما يُعبَّر عمَّن يعلم ويعقل.
ورابعها : أنْ يُحْمل على التقدير، أي : أنَّها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي، فإنَّها لا تهدي غيرها، إلاَّ بعد أن يهديها غيرها، ثم قال :﴿فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ أي : تَقضُون، حين زعمتُم : أنَّ للهَ شريكاً.
قوله :﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً﴾ الآية.
أي : يقولون إنَّ الأصنامَ آلهة، وأنَّها تشفع لهم في الآخرة، " ظَنّاً " : لمْ يردْ به كتابٌ ولا رسولٌ.
وأراد بالأكثر، جميع من يقول ذلك.
وقيل : وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله إلاَّ ظنّاً ؛ لأنَّه قولٌ غير مسندٍ إلى برهانٍ عندهم، بل سمعُوه من أسلافهم، وهذا القول أولى ؛ لأنَّا في الأول نحتاج إلى أن نُفَسِّر الأكثر بالكُلِّ.
قوله :" لاَ يُغْنِي " : خبرُ " إنَّ "، و " شيئاً " منصوبٌ على المصدر، أي : شيئاً من الإغناء، و " منَ الحقِّ " نصبٌ على الحالِ من " شَيْئاً " ؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ له، ويجُوزُ أن تكون " مِن " بمعنى " بدل "، اي : لا يُغْنِي بدل الحقِّ، وقرأ الجمهور :" يَفْعلُون " على الغيبة، وقرأ عبد الله :" تَفْعَلون " خطاباً، وهو التفاتٌ بليغٌ، ومعنى الآية : إنَّ الظَّنَّ لا يدفع عنهم من عذَابِ الله شيئاً، وقيل : لا يقوم مقام العلم.
فصل تمسَّك نُفاةُ القياس بهذه الآية، فقالوا : العملُ بالقياس عمل بالظَّنِّ، فوجب أن لا يجوز لهذه الآية، وأجيبوا : بأنَّ الدَّليل الذي دلَّ على وجوب العمل بالقياس، دليلٌ قاطعٌ، فكان وجوبُ العمل بالقياس معلوماً، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً، فأجابوا : بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس معلوماً، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً، فأجابوا : بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، لكان ترك العمل به كُفْراً ؛ لقوله - تعالى - :﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة : ٤٤] ولمَّا لمْ يكُن كذلك، بطل العمل به، ثم عبَّرُوا عن هذه الحُجَّة، فقالوا : الحكم المستفاد من القياس : إمَّا أن يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، أو يظن، أو لا يعلم ولا يظن.
والأرض باطل، وإلاَّ لكان من لم يَحْكُم به كافراً ؛ لقوله - تعالى - :﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة : ٤٤]، وبالاتِّفاق ليس كذلك.
والثاني : باطلٌ ؛ لأنَّ الحكم بالظَّنِّ لا يجوز ؛ لقوله - تعالى - :﴿إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾.
والثالث : باطلٌ ؛ لأنه إذا لم يكن كذلك الحكم معلوماً، ولا مظنوناً، كان مجرد التَّشهي، فكان باطلاً ؛ لقوله - تعالى - :﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ﴾ [مريم : ٥٩].
وأجاب مثبتُو القياس : بأنَّ حاصل هذا الدَّليل، يرجع إلى التَّمسك بالعمومات، والتَّمسُّك بالعمومات لا يفيد إلاَّ الظن، فإذا دلَّت العمومات، على


الصفحة التالية
Icon