قوله - تعالى - :﴿ يا أيها النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ﴾ الآية.
اعلم : أنَّه - تعالى - لمَّا بيَّن أنَّ الرسول حقٌّ وصدقٌ بظهور المعجزات على يديه، في قوله :﴿وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [يونس : ٣٧] إلى قوله ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس : ٣٨] وصف القرآن هنا بصفاتٍ أربع : أولها : كونه موعظة.
وثانيها : كوه شفاءً لما في الصُّدُور.
وثالثها : كونه هُدًى.
ورابعها : كونه رحمة للعالمين.
قوله :" مِّن رَّبِّكُمْ " يجوز أن تكون " مِنْ " لابتداء الغاية، فتتعلَّق حينئذٍ بـ " جَآءَتْكُمْ "، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ، ويجوز أن تكون للتَّبعيض، فتتعلق بمحذوف على أنَّها صفةٌ لـ " موعظة " أي : موعظةٌ كائنةٌ من مواعظ ربِّكُم.
وقوله :﴿مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ من باب ما عطف فيه الصِّفات بعضها على بعضٍ، أي : قد جاءتكم موعظةٌ جامعةٌ لهذه الأشياء كلِّها، و " شِفَاءٌ " في الأصل مصدرٌ جعل وصفاً مبالغة، أو هو اسمٌ لما يُشْفَى به، أي : يُداوى، فهو كالدَّواءِ لما يُدَاوى، و " لِمَا في الصُّدورِ " يجوز أن يكون صفةً لـ " شِفَاء " فيتعلق بمحذوفٍ، وأن تكون اللامُ زائدةً في المفعول ؛ لأنَّ العامل فرعٌ إذا قلنا بأنَّه مصدرٌ.
وقوله :" لِلْمؤمنينَ " محتملٌ لهذين الوجهين، وهو من التَّنازُع ؛ لأنَّ كلاًّ من الهُدَى والرحمة يطلبُه.
فصل أمَّا كون القرآن موعظةً ؛ فلاشتماله على المواعظِ والقصص، وكونه شفاءً، أي : دواءً، لجهل ما في الصُّدورِ، أي : شفاء لعمى القُلُوب، والصُّدُور موضعُ القلب، وهو أعز موضع في الإنسان لجواز القلب، قال - تعالى - :﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج : ٤٦] وكونه هُدًى، أي : من الضَّلالة، ﴿وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾، والرَّحْمَة : هي النعمة على المحتاج ؛ فإنَّه لو أهدى ملكٌ إلى ملك شيئاً، فإنَّه لا يقال رحمة وإن كان ذلك نعمة ؛ فإنَّه لم يصنعها إلى المحتاج.
٣٥٦
قوله :﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ﴾ : في تعلٌُّ هذا الجارِّ أوجهٌ : أحدها : أنَّ " بِفَضْلِ " و " بِرَحْمتهِ " متعلقٌ بمحذوفٍ، تقديره : بفضل الله وبرحمته ليفرحُوا، فبذلك فليَفْرَحُوا، فحذف الفعل الأول ؛ لدلالة الثاني عليه، فهما جملتان.
ويدلُّ على ذلك قول الزمخشري :" أصلُ الكلام : بفَضْلِ الله وبرحمته، فليفرحوا، فبذلك فليفرحوا، والتَّكرير للتَّأكيد، والتَّقرير، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحدُ الفعلين ؛ لدلالةِ المذكور عليه، والفاءُ داخلةٌ لمعنى الشَّرطِ، كأنَّه قيل : إن فرحُوا بشيءٍ، فليَخُصُّوهُمَا بالفرح، فإنَّه لا مفروح به أحق منهما ".
الثاني : أنَّ الجارَّ الأول متعلِّقٌ أيضاً بمحذوفٍ دلَّ عليه السِّياقُ والمعنى، لا نفس الفعل الملفوظ به، والتقديرُ : بفضل الله وبرحمته، فليعتنُوا، فبذلك فليَفْرَحُوا، قاله الزمخشري.
الثالث : أن يتعلَّق الجارُّ الأوَّل بـ " جَاءَتكُم " قال الزمخشري :" ويجوز أن يراد : قد جاءتكم موعظةٌ بفضلِ الله وبرحمتهِ، فبذلك فليفرحوا، أي : فَبِمجِيئهما فليَفْرَحُوا ".
قال أبو حيَّان :" أمَّا إضمار " فليَعْتنُوا " فلا دليل عليه ".
قال شهاب الدِّين :" الدَّلالةُ عليه من السِّياق واضحةٌ، وليس شرطُ الدَّلالةِ أن تكون لفظيَّة ".
وقال أبو حيَّان : وأمَّا تعلُّقُه بقوله :" قَدْ جَاءتُكم " فينبغي أن يُقدَّرَ محذوفاً بعد " قُلْ "، ولا يكونهُ متعلِّقاً بـ " جَاءَتْكُم " الأولى ؛ للفَصْل بينهما بـ " قُلْ "، وهذا إيراد واضحٌ، ويجُوزُ أن يكون " بِفَضْلِ اللهِ " صفةً لـ " مَوْعِظَة " أي : موعظةٌ مصاحبةٌ، أو ملتبسةٌ بفضل اللهِ.
الرابع : قال الحوفيُّ :" الباءُ متعلِّقةٌ بما دلَّ عليه المعنى، أي : قد جاءتكم الموعظة بفضل الله ".
الخامس : أنَّ الفاء الأولى زائدةٌ، وأنَّ قوله :" بذلك " بدلٌ ممَّا قبله، وهو " بِفَضْلِ الله وبرحمتهِ " وأُشير بذلك إلى اثنين ؛ كقوله :﴿لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ﴾ [البقرة : ٦٨].
وقوله :[الرمل] ٢٩٠٧ - إنَّ للخَيْرِ وللشَّرِّ مدًى
وكِلاَ ذلكَ وجْهٌ وقَبَلْ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٥٦
وفي هاتين الفاءين أوجهٌ : أحدها : أنَّ الأولى زائدةٌ، وقد تقدَّم في الوجه الخامس.
٣٥٧