وقال قطرب : يقال : أظلم اللَّيْلُ : صار ذا ظلمة، وأضاء النَّهار : صار ذا ضياء ؛ فيكون هذا من باب النسب ؛ كقولهم : لابنُ وتامرٌ، وقوله - تعالى - :﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة : ٢١]، إلاَّ أنَّ ذلك إنما جاء في الثلاثيِّ، وفي " فعَّال " بالتضعيف عند بعضهم في قوله - تعالى - :﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت : ٤٦] في أحد الأوجه.
ثم قال :﴿إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ أي : يتدبَّرُون ما يسمعُون، ويعتَبِرُون.
فإن قيل : قوله :﴿جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ يدل على أنَّه - تعالى - ما جعلهُ إلا لهذا الوجه، وقوله ﴿إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ﴾ يدلُّ على أنَّه - تعالى - أراد بتخليقِ الليل والنهار أنواعاً كثيرة من الدلائل.
فالجواب : أن قوله - تعالى - :" لِتسكُنوا " لا يدلُّ على أنَّه لا حكمة فيه إلاَّ ذلك، بل ذلك يقتضي حصول تلك الحكمة.
قوله تعالى :﴿قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ الآية.
هذا نوع آخر من أباطيلهم التي حكاها الله عنهم، " قالوا " يعني المشركين : الملائكة بنات الله، وقيل : قولهم : الأوثان أولاد الله، ويحتمل أن يكون قد كان فيهم قومٌ من النصارى قالوا ذلك، ثم استنكر هذا القول، فقال بعده :﴿هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ فكونه - تعالى - غنيّاً مالكاً لكلِّ ما في السموات والأرض، يدلُّ على أنه سبحانه يستحيل أن يكون لهُ ولد، وبيانه من وجوه : الأول : أنَّه لو كان محتاجاً، لافتقر إلى صانعٍ آخر، وهو محال، وكل من كان غنيّاً فلا بد أن يكون فرداً منزَّهاً عن الأعضاء والأبعاض، ومن كان كذلك يمتنع أن ينفصل عنه جزءٌ من أجزائه، والولد عبارةٌ عن انفصال جزء من أجزاء الإنسان، ثم يتولَّد من ذلك الجزء مثله، وإذا كان هذا محالاً، ثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً يمنع من ثُبُوت الولد لهُ.
الثاني : أن من كان غنيّاً، كان قديماً أزليّاً باقياً سرمديّاً، وكل من كان كذلك امتنع عليه الانقراض، والولدُ إنما يحصل للشَّيءِ الذي ينقضي وينقرض، فيكون ولده قائماً مقامه ؛ فثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً، يدل على أنه يمتنع أن يكون له ولد.
الثالث : أنَّ كلَّ من كان غنيّاً يمتنع أن يكون موصوفاً بالشهوة واللذة، وإذا امتنع ذلك، امتنع أن يكون له صاحبةٌ وولد.
وباقي الوجوه يطول ذكرها.
ثم قال :﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ وهذا نظيرُ قوله :﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَـانِ عَبْداً﴾ [مريم : ٩٣] ولمَّا بيَّن بالدليل الواضح امتناع ما أضافُوا إليه، عطف عليهم بالإنكار والتوبيخ، فقال :﴿إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ :" إنْ " نافية و " عندكُم " يجوز أن يكون خبراً مقدَّماً، و " مِنْ سلطانٍ " مبتدأ مُؤخَّراً، ويجوز أن يكون " من سلطان " مرفوعاً بالفاعليَّة بالظرف قبله ؛ لاعتماده على النفي، و " مِنْ " مزيدةٌ على كلا التقديرين، وبهذا يجوز أن يتعلق بـ " سُلْطان " لأنَّه بمعنى الحُجَّة والبرهان، وأن يتعلَّق بمحذوف صفة له ؛ فيحكم
٣٧٣
على موضعه بالجرِّ على اللفظ، وبالرفع على المحلِّ ؛ لأنَّ موصوفه مجرور بحرفِ جرٍّ زائدٍ، وأن يتعلَّق بالاستقرار.
قال الزمخشريُّ : الباءُ حقُّها أن تتعلَّق بقوله :" إنْ عندكُم " على أن يجعل القولُ مكاناً للسُّلطان ؛ كقوله " ما عندكم بأرضكم موزٌ " كأنه قيل : إن عندكم بما تقولون سلطانٌ وقال الخوفيُّ : بهذا متعلقٌ بمعنى الاستقرار.
يعنى : الذي تعلَّق به الظرف.
ثم قال :﴿أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وقد تقدَّم أنَّ الآية يحتجُّ بها نُفاة القياس في إبطال التقليد.
قوله - تعالى - :﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن بالدليل القاطع أنَّ إثبات الولد لله قول باطلٌ، ثم بيَّن أنه ليس لهذا القائل دليلٌ على صحة قوله، ظهر أن ذلك المذهب افتراء على الله - تعالى -، فبيَّن أنَّ من هذا حاله، فإنَّه لا يفلحُ ألبتَّة، أي : لا ينجح في سعيه، ولا يفوز بمطلُوبه، بل خاب وخسر.
قوله :﴿مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا﴾ يجوز رفع " متاع " من وجهين : أحدهما : أنه خبرُ مبتدأ محذوف، والجملة جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، فهي استئنافيةٌ، كأنَّ قائلاً قال : كيف لا يفلحُون، وهم في الدنيا مفلحون بأنواع ممَّا يتلذّذون به ؟ فقيل : ذلك متاع.
والثاني : أنه مبتدأ، والخبر محذوفٌ تقديره : لهُم متاعٌ، و " فِي الدُّنيا " يجوز أن يتعلق بنفس " متاع " أي : تمتُّعٌ في الدنيا، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه نعت لـ " متاع " فهو في محلِّ رفعٍ، ولم يقرأ بنصبه هنا، بخلاف قوله :﴿مَّتَاعَ الْحَيَاةِ﴾ [يونس : ٢٣] في أول السُّورة.
وقوله :﴿بِمَا كَانُواْ﴾ الباءُ للسببية، و " ما " مصدريةٌ "، أي : بسبب كونهم كافرين.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٧٠