وفي الحديث :" كان إذا احمَرَّ البأسُ اتَّقينا برسول الله ﷺ ".
أي : إذا اشتد الحَرْبُ جعلنا بيننا وبين العدو، فكأن المتقي جعل الامتثال لأمر الله، والاجتناب عما نَهَاهُ حاجزاً بينه وبين العذاب، وقال عمر بن الخَطَّاب لكعب الأحبار :" حدثني عن التقوى، فقال : هل أخذت طريقاً ذا شَوْكٍ ؟ قال : نعم، قال : فما عملت فيه ؟ قال : حذرت وشَمّرت، قال كعب : ذلك التَّقوى ".
وقال عمر بن عبد العزيز : التقوى تَرْكُ ما حَرَّمَ الله، وأداء ما افترض الله، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير.
وقال ابن عمر : التَّقوَى ألا ترى نفسك خيراً من أحد.
إذا عرفت هذا فنقول : إن الله - تعالى - ذكرَ المتقي هاهنا في معرض المدح، [ولن يكون ذلك] بان يكون متقياً فيما يتصل بالدّين، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات، محترزاً عن المحظورات.
واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصَغائر في التقوى ؟ فقال بعضهم : يدخل كما تدخل الصّغائر في الوعيد.
وقال آخرون : لا يدخل، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكُلّ، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوقّ الصغائر هل يستحق هذا الاسم ؟ فروي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال :" لا يَبْلُغُ العَبْدُ درجة المتّقين حتى يَدَعَ ما لا بَأسَ به حَذَراً مما به بَأسُ ".
وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنهم الذين يَحْذَرُون من الله العُقُوبَة في تَرْكِ ما يميل الهَوَى إليهن ويرجعون رحمته بالتَّصديق بما جاء منه.
واعلم أن حقيقة التقوى، وإن كانت هي التي ذكرناها إلاَّ أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة ؛ كقوله تعالى :﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ [الفتح : ٢٦] أي : التوحيد ﴿أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ﴾ [الحجرات : ٣]، ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ﴾ [الشعراء : ١١] أي : لا يؤمنون.
وتارة التوبة كقوله تبارك وتعالى :﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ﴾ [الأعراف : ٩٦]، ﴿وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون : ٥٢].
٢٧٦
وتارة ترك المعصية كقوله تعالى :﴿وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ﴾ [البقرة : ١٨٩] أي : فلا تعصوه.
وتارة الإخلاص كقوله :﴿فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج : ٣٢] أي : من إخلاص القلوب.
وهاهنا سؤالات : السؤال الأول : كون الشَّيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتَّقين فقط ؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي ؟ والمهتدي لا يهتدي ثانياً، والقرآن لا يكون هدى للمتقين ؟ والجواب : أن القرآن كما أنه هدى للمتقين، ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى صدق رسوله، فهو أيضاً دلالة للكافرين ؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا، وانتفعوا به كما قال :﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ [النازعات : ٤٥] وقال :﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس : ١١].
وقد كان عليه الصلاة والسلام منذراً لكلّ الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هُمُ الذين انتفعوا بإنذاره.
وأما من فسر الهُدَى بالدلالة الموصلة إلى المقصود، فهذا السؤال زائل عنه ؛ لأن كونه القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلاَّ في حق المتقين.
السّؤال الثاني : كيف وصل القرآن كله بأنه هدى، وفيه مجمل ومتشابه كثير، ولولا دلالة العقل لما تميز المُحْكم عن المُتَشَابه، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن ؟ ونقل عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن عباس حيث بعثه رسولاً إلى الخوارج : لا تَحْتَجَّ عليهم بالقرآن، فإنه خَصْمٌ ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ذلك فيه، ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر، وبعضها صريح في القدر ؛ فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسُّف الشديد، فكيف يكون هدى ؟ الجواب : أن ذلك المُتَشَابه والمُجْمَل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين - وهو إما دلالة العقل، أو دلالة السمع - صار كله هُدًى.
السؤال الثالث : كل ما يتوقَّف كون القرآن حُجّة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذا استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله - تعالى - وصفاته، وفي معرفة
٢٧٧
النبوة، فلا شَكَّ أن هذه المَطَالب أشرفُ المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق ؟ الجواب : ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشَّرَائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أَقْوَى الدلائل على أن المُطْلق لا يقتضي
٢٧٨