أي : بما كسبتْ يداهُ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة [٦] وجريمةُ القوم كاسبهم ؛ قال :[الوافر] ٢٩٥٥ - جَرِيمةُ نَاهِضٍ فِي رَأسِ نيقٍ
تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَلِيبا
فتقدير الآية : كَسَبَهُم - فعلهم أو قولهم - خسرانهم، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، وعلى هذا فالوقفُ على قوله " لا " ثم يبتدأ بـ " جَرَمَ " بخلاف ما تقدَّم.
الوجه الخامس : أن معناها لا صدَّ ولا منع، وتكون " جَرَمَ " بمعنى " القطع " تقول : جرمتُ أي : قطعت، فيكون " جَرَمَ " اسمَ " لا " مبنياً معها على الفتح ؛ كما تقدَّم، وخبرها " أنَّ وما في حيِّزها، أو على حذف حرف الجر، أي : لا منع من خسرانهم ؛ فيعودُ الخلافُ المشهور وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ : فيقال : لا جِرمَ بكسر الجمي، ولا جُرم بضمها، ولا جَرَ بحذف الميم، ولا ذا جرم، ولا إنَّ ذا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أنْ جرم، ولا ذُو جرم، ولا ذا جر والله لا أفعل ذلك.
وعن أبي عمروٍ :﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ﴾ [النحل : ٦٢] على وزن لا كرم، يعني بضمِّ الراءِ، ولا جرَ، قال :" حذفُوه لكثرةِ الاستعمالِ كما قالوا :" سَو ترى " أي : سوف ترى ".
وقوله :﴿هُمُ الأَخْسَرُونَ﴾ يجوز أن يكون " هُمُ " فصلاً، وأن يكون توكيداً، وأن يكون مبتدأ وما بعده خبره، والجملةُ خبر " أنَّ ".
قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا ااْ إِلَى رَبِّهِمْ﴾ لمَّا ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم، أتبعهُ بذكر أحوالِ المؤمنين، والموصولُ اسم " إنَّ "، والجملةُ من قوله ﴿أُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ﴾ خبرها.
والإخْبَاتُ : الاطمئنان والتذلُّل، والتَّواضع، والخضوع، وأصله من الخَبْتِ وهو المكانُ المطمئنُّ، أي المنخفضُ من الأرض، وأخْبَتَ الرَّجلُ : دخل في مكانٍ خبت، كأنْجَدَ وأتهم إذا دخل في أحذ هذين المكانين، ثُمَّ تُوُسِّعَ فيه فقيل : خَبَتَ ذكرهُ، أي : خَمَدَ، ويقال للشَّيءِ الدَّنيء الخبيث ؛ قال الشاعر :[الخفيف] ٢٩٥٦ - يَنْفَعُ الطَّيِّبُ القليلُ مِنَ الرِّزْ
قِ ولا ينفعُ الكثيرُ الخَبِيتُ
٤٦٢
هكذا ينشدون هذا البيت في هذه المادة، الزمخشري وغيره.
والظَّاهرُ أن يكون بالثَّاءِ المثلثة ولا سيما لمقابلته بالطَّيِّب، ولكن الظَّاهر من عباراتهم أنَّه بالتاء المثناة لأنَّهُم يسوقونهُ في هذه المادةِ، ويدل على أنَّ معنى البيت إنما هو على الثَّاء المثلثة قول الزمخشري :" وقيل : التَّاءُ فيه بدل من الثَّاءِ ".
ومن مجيء " الخَبْت " بمعنى المكان المطمئن قوله :[الوافر] ٢٩٥٧ - أفَاطِمُ لَو شَهِدْتِ ببطْنِ خَبْتٍ
وقَدْ قَتَلَ الهزَبْرُ أخَاكِ بِشْرَا
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٤٥٦
وفي تركيب البيت قلقٌ، وحلُّهُ : لو شهدتِ أخاك بشراً وقد قتل الهِزَبْرَ، ففاعل " قتل " ضمير يعودُ على " أخاك ".
و " أخْبَت " يتعدَّى بـ " إلى " كهذه الآية، وباللاَّم كقوله تعالى :﴿فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج : ٥٤] ومعنى الآية : قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - خافُوا.
وقال قتادةُ : تابُوا وقال مجاهدٌ : اطمأنُّوا.
وقيل : خشعُوا إلى ربِّهم.
﴿أُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٤٥٦
لمَّا ذكر الفريقين ذكر لهما مثالاً مطابقاً.
﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ﴾ مبتدأ، و ﴿كَالأَعْمَى ﴾ خبره، ثُمَّ هذه الكاف يحتمل أن تكون هي نفس الخبر، فتقدَّر بـ " مثل "، تقديره : مثلُ الفريقين مثل الأعمى.
ويجوزُ أن تكون " مَثَلُ " بمعنى " صفة "، ومعنى الكافِ معنى " مِثْل "، فيقدَّر مضافٌ محذوفٌ، أي : كمثل الأعمى.
وقوله :﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى ﴾ يجوزُ أن يكون من باب تشبيه شيئين بشيئين، فقابل العمى بالبصَرِ، والصَّمَم بالسَّمْع، وهو من الطِّباق، وأن يكون من تشبيه شيءٍ واحد
٤٦٣
بوصفيه بشيءٍ واحدٍ بوصفيه، وحينئذٍ يكون قوله :﴿كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ﴾ وقوله :﴿وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ﴾ من بابِ عطف الصفات ؛ كقوله :[المتقارب] ٢٩٥٨ - إلى المَلكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ
وليْثِ الكتيبَةِ في المُزْدَحَمْ
وقد أحسن الزمخشريُّ في التَّعبير عن ذلك فقال : شبَّه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصيرِ والسَّميعِ، وهو من اللفِّ والطِّباق، وفيه معنيان : أن يُشَبِّه الفريقين تشبيهين اثنين، كما شبَّه امرؤُ القيس قلوبَ الطَّير بالحشفِ والعُنَّاب، وأن يُشَبِّه بالذي جمع بين العمى والصَّمم، والذي جمع بين البصرِ والسَّمعِ، على أن تكون الواو في " والأصَمِّ " وفي " والسَّمِيع " لعطف الصِّفةِ على الصفة كقوله :[السريع] ٢٩٥٩ -.......................
الصْـ
ـصَابحِ فالغَانِمِ فالآيِبِ