قوله :﴿أَنِّي بَرِى ءٌ﴾ يجوزُ أن يكون من بابِ الإعمال ؛ لأنَّ " أشْهِدُ " يطلبه، و " اشْهَدُوا " يطلبه أيضاً، والتقديرُ : أشهدُ الله على أنِّي بريءٌ، واشهدُوا أنتم عليه أيضاً، ويكون من باب إعمال الثاني ؛ لأنَّهُ لو أعمل الأول لأضمر في الثاني، ولا غرو في تنازع المختلفين في التعدِّي واللزوم.
و " مِمَّا تُشْرِكُونَ " يجوز أن تكون " ما " مصدريةً، أي : من إشراككم آلهةٌ من دُونه، أو بمعنى " الَّذي "، أي : من الذين تشركونه من آلهةٍ من دونه، أي : أنتم الذين تجعلُونها شركاء.
وقوله :" جَمِيعاً " حالٌ من فاعل " فَكِيدُونِي "، وأثبت سائرُ القرَّاء ياء " فَكِيدُونِي " في الحالين، وحذفوها في المرسلات.
وهذا نظيرُ ما قاله نوح - عليه الصلاة والسلام - لقومه :﴿فَأَجْمِعُوا ااْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ﴾ [يونس : ٧١] إلى قوله :﴿وَلاَ تُنظِرُونَ﴾ [يونس : ٧١].
وهذه معجزةٌ قاهرةٌ ؛ لأنَّ الرَّجُل الواحدَ إذا أقبل على القوم العظام، وقال لهم : بالغُوا في عداوتي، وفي إيذائي، ولا تؤجلون فإنَّه لا يقُولُ هذا إلاَّ إذا كان واثقاً من الله بأنَّهُ يحفظه، ويصونه عن كيد الأعداءِ، وهذا هو المراد بقوله :﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾ أي : اعتمادي على الله ربِّي وربِّكُم.
﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ﴾ قال الأزهريُّ :" النَّاصيةُ عند العربِ : مَنْبِتُ الشَّعر في مقدم الرأس، ويسمَّى الشعر النَّابتُ هناك أيضاً ناصية باسم منبته ".
ونصَوْتُ الرَّجلَ : أخذتُ بناصيته، فلامُها واو، ويقال : ناصَاة بقلبِ يائها ألفاً، وفي الأخْذِ بالنَّاصية عبارةٌ عن الغلبة والتَّسلُّط وإن لم يكن آخذاً بناصيته، ولذلك كانُوا إذا منُّوا على أسيرٍ جزُّوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره، والعربُ إذا وصفُوا إنساناً بالذلة، والخضوع قالوا : ما ناصية فلان إلاَّ بيد فلان، أي : إنَّه مطيعٌ له.
ومعنى " آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ " قال الضحاكُ :" مُحْيِيهَا ومُمِيتها ".
وقال الفرَّاء :" مالكها والقادر عليها " وقال القتيبيُّ :" بقهرها ".
﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ يعني : وإن كان ربِّي قادراً عليهم فإنه لا يظلمهم، ولا يعملُ إلا بالإحسان والعدل، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وقيل : معناه دين ربِّي صراط مستقيم.
وقيل : فيه إضمار، أي : إن ربي يحثكم ويحملكم على صراط مستقيم.
" فإن تولَّوْا " أي : تتولَّوا فحذف إحدى التَّاءين، ولا يجُوزُ أن يكون ماضياً كقوله :
٥٠٨
" أبْلَغْتُكُم " ولا يجُوزُ أن يُدَّعى فيه الالتفات، إذ هو ركاكةٌ في التَّركيب، وقد جوَّز ذلك ابنُ عطية فقال :" ويُحْتَمل أن يكون " تَولَّوا " ماضياً، ويجيءُ في الكلام رجوعٌ من غيبةٍ إلى خطابٍ ".
قال شهابُ الدِّين :" ويجُوزُ أن يكون ماضياً لكن لمَدْرَكٍ آخر غير الالتفات : وهو أن يكون على إضمار القولِ، أي : فقل لهم : قد أبْلَغْتَكم، ويترجَّح كونه بقراءة عيسى الثقفي والأعرج " فإن تُولُّوا " بضمِّ التَّاءِ واللام، مضارع " ولَّى "، والأصل : تُوَلِّيُوا فأعِلّ.
وقال الزمخشريُّ :" فإن قلت : الإبلاغ كان قبل التَّولِّي، فكيف وقع جزاءً للشَّرْطِ ؟.
قلت : معناه، وإن تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريط في الإبلاغ، وكنتم محجوبين بأنَّ ما أرسلتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلاَّ التَّكذيب ".
قوله :" وَيَسْتَخْلِفُ " العامَّةُ على رفعه استئنافاً.
وقال أبو البقاءِ : هو معطوفٌ على الجوابِ بالفاءِ.
وقرأ عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - بتسكينه، وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون سُكِّن تخفيفاً لتوالي الحركات.
والثاني : أن يكون مجزوماً عطفاً على الجواب المقترن بالفاءِ، إذ محلُّه الجزمُ وهو نظيرُ قوله :﴿فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ﴾ [الأعراف : ١٨٦] وقد تقدَّم تحقيقه، إلاَّ أنَّ القراءتين ثمَّ في المتواتر.
والمعنى : إن تتولوا أهلككم الله، ويستبدلُ قوماً غيركم أطوع منكم يُوحِّدُونه ويعبدُونهُ.
قوله :" ولا تَضُرُّونهُ " العامَّةُ : على النُّون ؛ لأنَّه مرفوعٌ على ما تقدم، وابن مسعودٍ بحذفها، وهذا يُعيِّن أن يكون سكونُ " يَسْتَخْلف " جزماً ولذلك لم يذكر الزمخشريُّ غيره ؛ لأنَّهُ ذكر جزم الفعلين، ولمَّا لم يذكر أبو البقاءِ الجزم في " تَضُرُّونَهُ " جوَّز الوجهين في " يَسْتَخْلف ".
و " شيئاً " مصدرٌ، أي : شيئاً من الضَّرر.
والمعنى : أنَّ إهلاككم لا ينقصُ من ملكه شيئاً، لأنَّ وجودكم وعدمكم عنده سواء.
وقيل : لا تضرونهُ شيئاً بتوليكم وإعراضكم، إنما تضرُّون أنفسكم {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ
٥٠٩


الصفحة التالية
Icon