وعن أبي عبيدة :" سُمِّي عصيباً ؛ لأنَّه يعصبُ النَّاسَ بالشَّرِّ ".
كأنَّه عصب به الشَّر والبلاء أي : حشدوا والعِصَابةُ : الجماعةُ من النَّاس سُمُّوا بذلك لإحاطتهم إحاطة العصابة.
والمعنى : أنَّ لوطاً لمَّا نظر إلى حسن وجوههم، وطيب روائحهم، أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بالفاحشةِ، وعلم أنَّه سيحتاجُ إلى المدافعة عنهم، فلذلك ضاق بهم ذَرْعاً أي : قَلْباً.
يقال : ضَاقَ ذَرْعُ فلان بكذا، إذا وقع في مكروهٍ، ولا يطيقُ الخُروج منه.
قوله :﴿وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ﴾ " يُهْرَعُونَ " في محلِّ نصب على الحال.
والعامَّةُ على " يُهْرَعُونَ " مبنياً للمفعول.
وقرأ فرقة بفتح الياء مبنيّاً للفاعل من لغة " هَرَع " والإهراعُ : الإسْراعُ.
ويقالُ : هو المَشْيُ بين الهرولة والجمز.
وقال الهرويُّ : هَرَعَ وأهرع : استحث.
وقيل :" الإهراعُ : هو الإسْرَاع مع الرّعدة ".
قيل : هذا من باب ما جاء بصيغةِ الفاعلِ على لفظِ المفعولِ، ولا يعرف له فاعل نحو : أولع فلان، وأرْعِدَ زَيْدٌ، وزُهي عمرٌو من الزهو.
وقيل : لا يجوزُ ورود الفاعل على لفظ المفعول، وهذه الأفعالُ عرف فاعلوها.
فتأويلُ أولع فلانٌ أي : أولعهُ حبُّه، وأرْعدَ زيدٌ أي : أرعده غضبه، وزُهي عَمْرٌو أي : جعله ما لهُ زاهياً، وأهرع خوفه، أو حرصه.
فصل روي أنَّه لمَّا دخلت الملائكةُ دار لوط - عليه السلام - مضت امرأته فقالت لقومه : دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن منهم وجوهاً ولا أطيب منهم رائحة فـ " جَاءَهُ قَوْمُهُ " مسرعين ﴿وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ أي : من قبل مجيئهم إلى لوطٍ كانوا يأتون
٥٣٢
الرِّجال في أدبارهم، فقال لهم لوطٌ - عليه السلام - : حين قصدوا أضيافه فظنوا أنهم غلمان ﴿يا قَوْمِ هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ يعني : بالتزويج.
قوله :﴿هَـاؤُلا ااءِ بَنَاتِي﴾ جملةٌ برأسها، و ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ جملةٌ أخرى، ويجُوزُ أن يكون " هؤلاءِ " مبتدأ، و " بَنَاتِي " بدلٌ أو عطفُ بيان، وهُنَّ مبتدأ، و " أطْهَرُ " خبره، والجملة خبر الأول.
ويجوز أن يكون " هُنَّ " فصلاً، و " أطْهَرُ " خبر : إمَّا لـ " هَؤلاءِ "، وإمَّا لـ " بَنَاتِي " والجملةُ خبر الأوَّلِ.
وقرأ الحسنُ وزيدُ بنُ عليّ، وسعيدُ بنُ جبير، وعيسى بن عمر، والسُّدي " أطْهَرَ " بالنَّصْب، وخُرِّجَتْ على الحالِ، فقيل :" هؤلاءِ " مبتدأ، و " بَنَاتِي هُنَّ " جملة في محلِّ خبره، و " أطْهَرَ " حال، والعاملُ : إمَّا التَّنبيهُ وإمَّا الإشارةُ.
وقيل :" هُنَّ " فصلٌ بين الحالِ وصاحبها، وجعل من ذلك قولهم :" أكثر أكْلِي التفاحة هي نضيجةً " ومنعه بعضُ النحويين، وخرج الآية على أنَّ " لَكُم " خبر " هُنَّ " فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنويِّ، وخرَّج المثل المذكور على أنَّ " نَضِيجَةٌ " منصوبة بـ " كَانَ " مضمرة.
فصل قال قتادةُ - رحمه الله - :" المرادُ بناته لصلبه "، وكان في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزاً كما زوَّج النبي - صلوات الله البرّ الرحيم وسلامه عليه دائماً أبداً - ابنته من عُتْبة بن أبي لهبٍ، وزوج ابنته الأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين.
وقال الحسنُ بن الفضل : عرض بناته عليهم بشرط الإسلام.
وقال مجاهدٌ وسعيدُ بن جبير : أراد نساءهم، وأضاف إلى نفسه ؛ لأنَّ كُلَّ نبيٍّ أبو أمته وفي قراءة أبي بن كعب " ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب : ٦] وهو أب لهم " وهذا القول أولى ؛ لأنَّ إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفُجَّار أمر مستعبدٌ لا يليقُ بأهل المروءةِ، فكيف بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ؟ وأيضاً فبناته من صلبه لا تكفي للجمع العظيم، أمَّا بناتُ أمته ففيهن كفاية للكُلِّ، وأيضاً : فلم يكن له إلاَّ بنتان، وإطلاق البنات على البنتين لا يجوز ؛ لما ثبت أنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة ؛ وقال بعضهم ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على سبيل التحقيق.
٥٣٣