قراءةُ النُّونِ فيهما، وقسم يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول " تأمُرك "، وهي قراءةُ النُّون في " نفعلُ " والتاء في " تشاء "، وقسمٍ يجوزُ فيه الأمْران وهي قراءةُ التاء فيهما.
والظَّاهرُ من حيثُ المعنى في قراءة التَّاء فيهما، أو في " تشاء " أنَّ المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان ؛ لأنه كان يامرهم بهما.
وقال الزمخشريُّ :" المعنى : تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأنَّ الإنسان لا يؤمرُ بفعل غيره ".
واعلم أنَّ قوله :﴿أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ﴾ إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد.
وقوله :﴿أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس.
فصل قيل : المرادُ بالصلاة هنا الدِّين والإيمان ؛ لأنَّ الصلاة أظهر شعائر الدين ؛ فجعلوا ذكر الصَّلاة كناية عن الدِّين.
وقيل : أصل الصلاة الاتِّباعُ، ومنه أخذ المصلِّي من خيل المسابقة، وهو الذي يتلو السابق ؛ لأنَّ رأسه يكون على صلوي السَّباق، وهما ناحيتا الفخذين، والمعنى : دينُك يأمرك بذلك.
وقيل : المرادُ هذه الأفعال المخصوصة، روي أنَّ شُعَيْباً كان كثير الصَّلاةِ، وكان قومه إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكُون، فقصدوا بقولهم : أصلاتُكَ تأمرك السخرية والاستهزاء.
﴿إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾.
قال ابن عباس : أرادوا السَّفيه الغاوي ؛ لأنَّ العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون : للديغ سليم، وللفلاة مفازة.
وقيل : قالوه على وجهِ الاستهزاء، كما يقال للبخيل الخسيس " لو رآكَ حاتمٌ، لسجد لك "، وقيل : الحليم، الرشيد بزعمك.
وقيل : على الصِّحَّة أي : إنَّكَ يا شعيبُ فينا حليم رشيد لا يحصل بك شقّ عصا قومك، ومخالفة دينهم، وهذا كما قال قومُ صالح :﴿قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا﴾ [هود : ٦٢].
قوله :" أَرَأَيْتُمْ " قد تقدَّم مراراً [يونس : ٥٠].
وقال الزمخشريُّ هنا : فإنْ قلت : أين جوابُ " ارأيْتُم " وما له لم يثبتْ كما ثبت في قصَّة نوح، وصالح ؟ قلتُ جوابهُ محذوفٌ، وإنَّما لم يثبتْ ؛ لأنَّ إثباته في القصتين دلَّ على مكانه، معنى الكلام ينادي عليه، والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين من ربِّي ونبيّاً على الحقيقة، أيصحُّ أن لا آمركم بترك عبادةِ الأوثان والكفِّ عن المعاصي، والأنبياءُ لا يبعثُون إلاَّ لذلك ؟.
٥٤٧
قال أبُو حيَّان : وتسميةُ هذا جواباً لـ " أرَأيتُمْ " ليس بالمصطلح، بل هذه الجملةُ التي قدَّرها في موضع المفعول الثّضاني لـ " أرَأَيْتُم " لأنَّ " أرَأَيْتُمْ " إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّت إلى مفعولين، والغالبُ في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقدُ منها، ومن المفعول الأوَّل في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العربِ :" أرأيتك زيداً ما صنع " وقال الحوفيُّ :" وجوابُ الشَّرط محذوفٌ لدلالة الكلام على تقديره : أأعدلُ عمَّا أنا عليه ".
وقال ابنُ عطيَّة :" وجوابُ الشَّرط الذي في قوله :" إنْ كُنتُ " محذوفٌ تقديره أضلُّ كما ضللتُمْ، أو أترك تبليغ الرسالة، ونحو هذا ممَّا يليقُ بهذه المُحاجَّة ".
قال أبُو حيان : وليس قوله :" أضَلَّ " جواباً للشَّرط ؛ لأنَّه إن كان مثبتاً فلا يمكنُ أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشَّرط، وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة فهو في موضع المفعول الثاني لـ " أرأيْتُمْ " وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ يدلُّ عليه الجملة السَّابقة مع متعلَّقها.
فصل المعنى ﴿أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾ بصيرة وبيان من ربِّي ﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ حلالاً.
قيل : كان شعيب كثير المالِ الحلال.
وقيل : الرزق الحسنُ : العلم والمعرفة أي : لما أتاني جميع هذه السَّعادات، فهل ينبغي لي مع هذه النعم أن أخُونَ في وحيه، أو أنْ أخالفَ أمره ونهيه، وإذا كان العزّ من الله، والإذلال من الله، وذلك الرزقُ إنَّما حصل من عند الله فأنا لا أبالي بمخالفتكم، ولا أفرحُ بموافقتكم، وإنَّما أكون على تقرير بدين الله وإيضاح شرائعه.
قوله :﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ﴾ قال الزمخشريُّ : خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده وأنت مُولِّ عنه، وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقولُ :" خالفَنِي إلى الماءِ "، يريد أنه ذاهب إليه وارداً، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً، ومنه قوله تعالى :﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتُكم عنها لأستبدَّ بها دُونَكُم.
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ معنى حسنٌ لطيف، ولم يتعرَّض لإعراب مفراداته ؛ لأن بفهم المعنى يفهم الإعراب.
فيجوزُ أن يكون قوله :" أنْ أخَالِفَكُمْ " في موضع مفعول بـ " أُرِيدُ "، أي : وما أريد مُخالفتكُم، ويكون " فاعل " بمعنى " فعل " نحو : جاوتُ الشَّيء وجُزْته، أي : وما أريد أن أخالفكم، أي : أكون خلفاً منكم.
٥٤٨


الصفحة التالية
Icon