جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٥٥٩
ثم قال :﴿إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ﴾ قال القفال : تقرير الكلام أن يقال : إنَّ هؤلاء إنَّما عذبُوا في الدُّنيا لتكذيبهم الأنبياء، وإشراكهم بالله، فإذا عُذِّبوا في الدُّنيا على ذلك وهي دارُ العملِ، فلأنْ يُعذَّبُوا عليه في الآخرة التي هي دارُ الجزاءِ، كان أولى.
وهذا قولُ كثير من المفسِّرين.
قال ابنُ الخطيب : وعلى هذا الوجه الذي ذكره القفالُ يكونُ ظهور عذاب الاستئصال في الدُّنيا دليلاً على أنَّ القول بالقيامة والبعث حقٌّ، وظاهرُ الآية يقتضي أنَّ العلم بأنَّ القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بعذاب الاستئصال، وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال ؛ لأنَّ القفال يجعل العمل بعذابِ الاستئصال أصلاً للعلم بأنَّ القيامة حق ؛ فبطل ما ذكره القفالُ، والأصوبُ عندي أن يقال : العلم بأنَّ القيامة حق موقوف على العلم بأنَّ لوجود السموات والأرض فاعل مختار لا موجب بالذَّاتِ، وما لم يعلم الإنسان أنَّ إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكمنات، وأنَّ جميع الحوادث الواقعة في السموات والأرض لا تحصلُ إلا بتكوينه وقضائه، لا يمكنه أن يعتبر بعذابِ الاسئصال ؛ لأنَّ الذين يذهبون إلى انَ المؤثَر في وجود هذا العالم موجبٌ بالذَّات، لا فاعلٌ مختارٌ، يزعمون أنَّ هذه الأحوال التي ظهرت في أيَّام الأنبياء ؛ كالغرق، والخسق، والمسخ، والصَّيْحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب وإيصال بعضها ببعض، وإذا كان الأمرُ كذلك، فحينئذٍ لا تكون حصولها دالاًّ على صدق الأنبياء.
فأما المؤمن بالقيامة ؛ فلا يتم له ذلك الإيمانُ إلا إذا اعتقد أنَّ إله العالم فاعل مختار، وأنه عالمٌ بجمعي الجزيئات، وإذا كذلك لزم القطعُ بأن حدوث هذه الوقائع العظيمة إنَّما كان بسبب أنَّ إله العالم خلقها وأوجدها لا بسبب طوالع الكواكب
٥٦٢
واتصالاتها، وحينئذ يسمع هذه القصص، ويستدلّ بها على صدق الأنبياء ؛ فثبت بذلك صحة قوله :﴿إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ﴾.
قوله تعالى :﴿ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ﴾ " ذلك " : إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بالسياق من قوله :﴿عَذَابَ الآخِرَةِ﴾ و " مَجْموعٌ " صفةٌ لـ " اليوم " جرت على غير من هي له، فلذلك رفعت الظَّاهر وهو " الناس " وهذا هو الإعراب نحو :" مَررْتُ برجُلٍ مضروبٍ غلامهُ ".
وأعرب ابن عطيَّة " النَّاس " مبتدأ مؤخراً، و " مَجْمُوعٌ " خبره مقدماً عليه.
وفيه ضعف إذ لو كان كذلك لقيل : مجموعون، كما يقالُ : النَّاسُ قائمون ومضربون، ولا لليوم، أي : النَّاس مجموع له، و " مَشْهُودٌ " متعيِّنق لأن يكون صفة فكذلك ما قبله.
وقوله :﴿مَّشْهُودٌ﴾ من باب الاتِّساعِ في الظرف بأن جعلهُ مشهوداً، وإنَّما هو مشهودٌ فيه ؛ وهو كقوله :[الطويل] ٣٠١٦ - ويَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً
قَليلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهالِ نَوافِلُهْ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٥٦٢
والأصلُ : مشهودٌ فيه، وشهدْنَا فيه، فاتُّسِع فيه بأنْ وصل الفعلُ إلى ضميره من غير واسطة، كما يصلُ إلى المفعول به.
قال الزمخشريُّ :" فإن قتل : أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فعله ؟ قلت : لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنَّهُ لا بدَّ أن يكون ميعاداً مضروباً لجمع النَّاس له، وأنَّه هو الموصوفُ بذلك صفة لازمة " قال ابنُ عبَّاسٍ : يشهده البر والفاجرُ.
وقيل : يشهده أهلُ السموات وأهلُ الأرضِ.
قوله :﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ﴾ الضَّميرُ يعود على " يَوْم ".
وقال الحوفيُّ :" على الجزاءِ " وقرأ الأعمش :" ومَا يُؤخِّره " - بالياء - أي : الله تعالى " إلاَّ لأجَلٍ معدُودٍ " وكل ما له عدد، فهو متناهٍ، وكل ما كان متناهياً، فلا بُدَّ أن ينفي، فتأخير القيامة ينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم اله القيامة فيه، وكُلُّ ما هو آتِ قريب.
قوله :﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾ قرأ أبو عمرو والكسائيُّ ونافعٌ " يَأتِي " بإثبات الياءِ وصْلاً وحذفها وقْفاً.
٥٦٣
وقرأ ابنُ كثير بإثباتها وصْلاً ووقفاً وباقي السبعة : قرءوا بحذفها وصلاً ووقْفاً.
وقد وردتْ المصاحفُ بإثباتها وحذفها : ففي مصحف أبيّ إثباتُها، وفي مصحق عثمان حذفها، وإثباتها هو الوجه ؛ لأنَّها لامُ الكلمة، وإنَّما حذفُوها في القوافي، والفواصل، لأنَّها محلُّ وقوف وقالوا : لا أدْرِ، ولا أبَالِ.
وقال الزمخشريُّ " والاجتزاءُ بالكسرة عن الياءِ كثيرةٌ في لغةِ هذيلٍ ".
وأنشد ابنُ جريرٍ في ذلك :[الرجز] ٣٠١٧ - كَفَّاكَ كَفٌّ ما تُليقُ دِرْهَمَا
جُوداً وأخْرَى تُعْطِ بالسِّيْفِ الدَّما


الصفحة التالية
Icon