وقد تقدَّم في آل عمران في قراءة من قرأ :﴿وإذا أخذ الله ميثاق النبين لمَا آتيتكم﴾ [الآية : ٨١] بتشديد " لمَّا " أنَّ الأصل :" لمن ما " ففعل فيه ما تقدَّم، وهذا أحدُ الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف هناك في سورته، فالتفت إليه.
وقال أبو شامة : وما قاله الفرَّاء استنباطٌ حسنٌ، وهو قريبٌ من قولهم في قوله ﴿لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ [الكهف : ٣٨] إنَّ أصله : لكنم أنا ثُمَّ حذفت الهمزةُ، وأدغمت النون في النُّون، وكذا في قولهم : أمَّا أنت منطلقاً انطلقت، قالوا المعنى لأن كنت منطلقاً.
وفيما قاله نظرٌ، لأنَّهُ ليس فيه حذفٌ ألبتَّة، وإنَّما كان يحسنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ حذف، وأمَّا مجرَّدُ التَّنظير
٥٧٩
بالقلب والإدغام فغيرُ طائلِ، ثم قال أبو شامة : وما أحسن ما استخرج الشَّاهد من البيت يعني : الفرَّاء، ثَم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتي التَّخفيف والتَّشديد من " لمَّا " في معنى واحد، فقالك " ثُمَّ تُخفَّفُ، كما قرأ بعضُ القرَّاءِ ﴿والَغْ يَعِظُكُم﴾ [النحل : ٩٠] بحذف الياء عند الياء ؛ أنشدني الكسائيُّ :[الوافر].
٣٠٢٦ - وأشْمَتَّ العُداةَ بِنَا فأضْحَوْا
لَدَيْ يَتباشَرُونَ بِمَا لَقِينَا
فحذفت ياؤه لاجتماع الياءات ".
قال شهابُ الدِّين : الأولى أن يقال : حذفت ياءُ الإضافة من " لَدَيّ " فبقيت الياءُ السَّاكنةُ قبلها المنقلبةُ عن الألف في " لَدَى " وهو مثلُ قراءةِ من قرأ ﴿يا بُنَيْ﴾ [هود : ٤٢] بالإسكان على ما سبق، وأمَّا الياءُ من " يَتَبَاشرُونَ " فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة.
ثم قال الفرَّاءُ :[الرجز]
٣٠٢٧ - كأنَّ مِنْ آخِرِهَا إلقَادِمِ
يريد : إلى القادمِ ؛ فحذف اللاَّم وتوجيهُ قولهم من آخرها إلقادم أنَّ ألف " إلى " حذفت لالتقاءِ الساكنينِ، وذلك أنَّ ألف " إلى " ساكنةٌ، ولام التَّعريف من القادم ساكنة، وهمزة الوصل حذفت درجاً، فلما التقيا حذف أولهما فالتقى لامان : لام " إلى " ولام التعريف، فحذفت الثانية على رأيه، والأولى حذف الأولى ؛ لأنَّ الثانية دالة على التعريف، فلم يبق من حرف " إلى " غير الهمزة فاتصلت بلام " القادمِ " فبقيت الهمزة على كسرها ؛ فلهذا تلفظ بهذه الكلمة " مِنْ آخرِهَا إلقادِمِ " بهمزة مكسورة ثابتةً درجاً ؛ لأنها همزة قطع.
قال أبُو شامة : وهذا قريبٌ من قولهم :" مِلْكذبِ " و " عَلْماءِ بنُو فُلانٍ " و " بَلْعَنْبَرِ " يريدون : من الكذبِ، وعلى الماءِ بنُو فُلانٍ، وبنُو العَنْبرِ، قال شهابُ الدين - رحمه الله - : يريدُ قوله :[المنسرح] ٣٠٢٨ - أبْلِغْ أبَا دَخْتَنُوسَ مألُكَة
غَيْرُ الذي قَد يُقَالُ مِلْكَذبِ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٥٧٥
المأكلة : الرِّسالة، وقول الآخر :[الطويل] ٣٠٢٩أ - فَمَا سَبَقَ القَيْسِيُّ مِنْ سُوءِ فعلهِ
ولكِنْ طَفَتْ عَلْمَاءِ غُرْلَةُ خَالدِ
الغُرْلة القُلفة، وقول الآخر :[الخفيف]
٥٨١
٣٠٢٩ب - نَحْنُ قَوْمٌ مِلْجِينِّ في زيِّ ناسٍ
فَوْقَ طَيْرِ لَهَا شُخُوصُ الجِمالِ
يريد : مِن الجنِّ.
قال التبريزي في شرح الحماسة : وهذا مقيسٌ، وهو أن لام التعريف، إذا ظهرت في الاسم حذف الساكنُ قبلها ؛ لأن الساكن لا يدغم في الساكن ؛ تقول : أكلتُ مالخُبْزِ، ورَكْبَتْ مِلخَيْلِ، وحَملتُ مِلْجَمَلِ.
وقد ردَّ بعضهم قول الفرَّاء بأنَّ نون " مِنْ " لا تحذف إلاَّ ضرورة، وأنشد :[المنسرح] ٣٠٣٠ -.............
.............
ملْكَذب
الثالث : أنَّ أصلها " لمَا " بالتَّخفيف، ثمَّ شددت، وإلى هذا ذهب أبو عثمان، قال الزَّجَّاج :" وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأنَّا لَسنَا نُثَقِّل ما كان على حرفين، وأيضاً فلغةُ العربِ العكس من ذلك يُخَفِّفُون ما كان مُثَقَّّلاً نحو :" رُبَ " في " رُبَّ " وقيل : في توجيه إنَّه لمَّا وقف عليها شدَّدها، كما قالوا : رأيتُ فرجًّا، وقصبًّا، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وفي هذا نظرٌ ؛ لأنَّ التَّضعيف إنَّما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً، والميمُ هنا حشوٌ ؛ لأنَّ الألف بعدها، إلاَّ أن يقال : إنَّه أجرى الحرف المتوسط مجرة المتأخِّر ؛ كقوله :[الرجز]
٣٠٣١ - مِثْلَ الحَريقِ وَافَقَ القَصَبَّا
يريد : القَصَبَ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّدت منها ألفٌ، وضعَّف الحرف ؛ وكذلك قوله :[الرجز] ٣٠٣٢ - بِبَازلٍ وجْنَاءَ أوْ عَيْهَلِّي
كأنَّ مَهْواهَا عَلى الْكَلْكَلِّ