فإن قيل : فعلى هذا التدقير لا يبقى لقوله :﴿لَوْلا اا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ فائدة قلنا : بل فيه أعظمُ الفوائد، وبيانه من وجهين : الأول : أنه ـ تعالى ـ أعلم يوسف أنه لو همَّ بدفعها لقتلته، أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه الله ـ تعالى ـ أنَّ الامتناع من ضربها أولى، لصون النَّفس عن الهلاك.
الثاني : أنه ﷺ لو اشتغل بدفعها عن نفسه، فرُبَّما تعلقت به، فكان يتخرق ثوبه من قُدَّام، وكان في علم الله أنَّ الشَّاهد سيشهد أن ثوبه لو خرق من قدام، لكان يوسف هو الخائنُ، ولو كان ثوبه مخرَّقاً من خلفه لكانت المرأة هي الخائنة، والله ـ تعالى ـ أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه، بل ولَّى هارباً منها حتى صارت شهادةُ الشَّاهد حجَّة له على براءته عن المعصية.
الوجه الثاني في الجواب : أن يفسر الهَمُّ بالشَّهوةِ، وهذا مستعملٌ في اللغة الشَّائعة، يقولُ القائلُ فيما لا يشتهيه : لا يهمُّنِي هذا، وفيما يشتهيه : هذا أحبُّ الأشياءِ إليّ، فسمَّى الله شهوة يوسف همًّا.
والمعنى : لقد اشتهته، واشتهاها لولا أن رأى برهان ربِّه لدخل ذلك العملُ في الوجود.
الثالث : أن يفسر الهمُّ بحديث النَّفس ؛ وذلك لأنَّ المرأة الفائقة في الحسن والجمال، إذا تزينت، ونهيّأت للرَّجل الشَّاب القوي، فلا بد أن يقع هناك بين الشهوة والحكمة، وبين النفس، والعقل محادثات، ومنازعات، فتارة تقوى داعيةُ الطبيعة والشهوة، وتارة تقوى داعية العقل والحكمة، والهمُّ عبارة عن محادثات الطبيعة ورؤية البرها عبارة عن جواذب العبودية، ومثاله : أنَّ الرَّجل الصَّالح الصَّائم ف يالصيف الصَّائف، إذا رأى الجلاب المبرِّد بالثَّلج، فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أنَّ دينه يمنعه منه، فهذا لا يدلُّ على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبوديَّة أكمل، فظهر بحمد الله صحَّة القول الذي ذهبنا إليه، ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرَّد التَّصلف، وتعديد أسماءِ المفسرين، ولو ذكر في تقرير ذلك القول شهبة لأجبنا عنها إلا أنَّه ما زاد عن الرواية عن بعض المفسِّرين.
واعلم أنَّ بعض الحشويَّة روى عن النبي المختار ﷺ :" ما كّذبَ إبْراهِيمُ إلاَّ ثلاثَ كَذبَاتٍ " فقلت : الأولى ألاَّ تقبل مثل هذه الأخبار فقال على [طريق] الاستنكار : إن لم نقبله لزمنا تكذيبُ الرُّواةِ، فقلت له : يا مسكينُ إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم
٦٦
ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شك أن صون إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن الكذب أولى من صون طائفةٍ من المجاهيل عن الكذب.
إذا عرفت هذا الأصل، فنقولُ للواحدي : ومن الذي يضمنُ لنا أنَّ الذين نقولا هذه القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين، أو كاذبين.
والله أعلم.
فصل اختلوفوا في البرهان ما هو ؟.
فقال المحققون المثبتون للعصمة : رُؤيةُ البُرهانِ على وجوهٍ : الاول : أنه حجَّة الله تعالى ـ في تحريم الزِّنا، والعلمُ بما على الزَّاني من العذاب.
الثاني : أن الله تعالى ـ طهَّر نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذَّميمة، بل نقول : إنه ـ تعالى، طهر نفوس المتصلين بهم عنها، كما قال تعالى :﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب : ٣٣] والمراد برؤية البرهان : هو حصولُ ذلك الإخلاص، وترك الأحوال الدَّاعية به إلى الإقدام على المنكرِات.
الثالث : أنه رأى مكتوباً في سقف البيت :﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء : ٣٢].
الرابع : أنًَّهُ النبوة المانعةُ من ارتكاب الفواحشِ، ويدلُّ عليه أنَّ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بعثوا لمنع الخلقِ من القبائح، فلو أنَّهم منعوا النَّاس عنها، ثم أقدموا على أقبح أنواعها لدخلوا تحت قوله ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف : ٢] وايضاً : فإن الله ـ تعالى ـ عيَّر اليهود بقوله ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة : ٤٤] ما كان عيباً في حق اليهود، كيف ينسب إلى الرسول ﷺ المؤيد بالمعجزات.
وأمَّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ فذكروا في ذلك البرهان وجوهاً : الأول : أنَّ المرأة قامت إلى صنم مكلَّلٍ بالدُّرِّ، والياقوت في زاوية البيت، فسترته بثوبٍ، فقال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام، [ولم ؟ قالت : أستحي من إلهي أن يراني على المعصية، فقال يوسف :] أتستحين من صنم لايسمعُ، ولا يبصرُ ولا أستحي من إلهي القائمِ على كلِّ نفس بما كسبت، فوالله لا أفعلُ ذلك أبداً، قال هذا هو البُرهَانُ.
الثاني : نقلُوا عن ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ أنَّهُ تمثَّل له يعقوب، فرآه عاضًّا على أصبعه يقول له : لا تعمل عمل الفُجَّار، وأنت مكتوبٌ في زمرة الأنبياء ـ عليهم
٦٧