والناسُ إنما يروونهُ بالمعجمة، ويسفرونه بأنه أصاب حبُّه شغاف قلبها، أي : أحرقَ حجابهُ، وهي جليدةٌ رقيقةٌ دونه، كما شغف، أي : كما أحرق، وأراد بالمَهْنُوءةِ : المطليَّة بالهناءِ، أي : القطران، ولا ينشدونه بالمهملة، وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى ؛ فقال :" الشَّغف : إحراقُ الحُبِّ للقلب مع لذة يجدها ؛ كما أنَّ البعير إذا طُلِيَ بالقطرانِ، بلغ منه مثل ذلك، ثم يَسْتَرْوحُ إليه ".
وقال أبو البقاء ـ رحمه الله ـ لما حكى هذه القراءة :" مِن قولِكَ : فلانٌ مشغوفٌ بكذا، أي : مغرمٌ به ".
وقال ابنُ الأنباريِّ :" الشَّغفُ : رُءوسُ الجبالِ، ومعنى شغف بفلانٍ : إذا ارتفع حبُّه إلى أعْلَى موضعٍ من قلبهِ ".
وعلى هذه الأقوال فمعناهما متقاربٌ، وفرق بعضهم بينهمان فقال ابنُ زيدٍ :" الشَّغفُ ـ يعني بالمعجمة ـ في الحبِّ، والشعف : في البغضِ ".
وقال الشعبيُّ : الشَّغَفُ، والمشغوفُ ـ بالغينِ ـ منقوطة ـ في الحبِّ، والشَّعفُ : الجنونُ، والمَشْعُوفُ : المَجنْونُ ".
قوله :﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾، أي : خطأ مبين ظاهر، وقيل : معناه : إنَّها تركت ما يكون عليه أمثالها من العفاف والستر.
" فلَّما سَمِعَتْ " راعيلُ " بِمكْرهِنَّ " ؛ بقولهنَّ، وسمى قولهنَّ مكراً ؛ لوجوه : الأول : أنَّ النسوة، إنما قلن ذلك ؛ مكراً بها ؛ لتُريهنَّ يوسف، كان يوصف لهن حسنهُ وجماله ؛ لأنَّهن إذا قلن ذلك، عرضتْ يوسف عليهنَّ ؛ ليتمهد عذرها عندهن.
الثاني : أنَّها أسرَّت إليهنَّ حبَّها ليوسف استكتمهُنَّ، فأفشين ذلك السرَّ ؛ فلذلك سمَّاه مكراً.
الثالث : أنهن وقعن في الغيبة، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفيةِ، فأشبهت المكر.
﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ﴾ : قال المفسرون : اتخذت مأدبة، ودعت جماعة من أكابرهن، " وأعْتدَتْ " أي : أعدَّت " لهُنَّ مُتَّئاً ".
٨٠
قرأ العامة :" مُتَّكئاً " بضم الميم، وتشديد التاءِ، وفتح الكاف والهمز، وهو مفعولٌ به، بـ " أعْتَدتْ " أي : هيَّأتْ، وأحضَرتْ.
والمُتَّكأ : الشيءُ الذي يتكأ عليه، من وسادةٍ ونحوها، والمُتَّكأ : مكان الاتِّكاءِ، وقيل : طعام يُجزُّ جزًّا.
قال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومجاهد ـ رضي الله عنهم ـ :" مُتَّكَئاً، أي : طعاماً، سمَّاه " مُتَّكَئاً " ؛ لأنَّ أهل الطعامِ إذا جلسوا، يتكئُون على الوسائدِ، فسمى الطعامُ متكئاً ؛ على الاستعارة ".
وقيل :" مُتَّكئاً "، طعام يحتاج إلى أن يقطع بالسكِّين ؛ لأنه إذا كان كذلك، احتاج الإنسانُ إلى أن يتكىء عليه عند القطع.
وقال القتبي : يقالُ : اتكأنا عند فلانٍ، أي أكلنا.
وقال الزمخشري : من قولك : اتكأنا عند فلانٍ، طعمنا على سبيل الكناية ؛ لأنه من دعوتهُ ليطعمَ عندك اتخذت له تكأةً يتكىءُ عليها ؛ قال جميلٌ :[الخفيف] ٣٠٨٣ـ فَظَلِلْنَا بنِعْمَةٍ واتَّكأنَا
وَشَرِبْنَا الحلالَ مِنْ قُلَلِهْ
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٧٧
فقوله :" وشَرِبْنَا " مرشحٌ لمعنى " اتَّكأنَا " : أكلنا.
وقرأ أبو جعفر، والزهريُّ ـ رحمهما الله ـ :" مُتَّكأً " مشددة التاء، دون همزٍ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون أصله : متكأ " كقراءة العامَّة، وإنما خفف همزُهُ ؛ كقولهم :" تَوضَّيْتُ " في توضَّأتُ، فصار بوزن " مُتَّقى ".
والثاني : أن يكون " مُفْتَعَلاً " من أوكيتُ القِربَة، إذا شدَدْتَ فَاهَا بالوكاءِ.
فالمعنى : أعْتدَتْ شيئاً يَشْتدِدْنَ عليه ؛ إمَّا بالاتِّكاءِ، وإمَّا بالقطْعِ بالسكِّين، وهذا الثاني تخريجُ أبي الفتحِ.
وقرأ الحسن، وابن هرمز :" مُتَّكاءً " بالتشديد والمد، وهي كقراءةِ العامة، إلاَّ أنه أشبع الفتحة ؛ فتولد منها الألفُ ؛ كقوله :[الوافر]
٨١
٣٠٨٤ـ.................
ومِنْ ذمِّ الرِّجالَ بمُنْتزَاحِ
وقول الآخر :[الكامل] ٣٠٨٥ـ يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى أسيلٍ جَسْرَةٍ
........................
وقوله :[الرجز] ٣٠٨٦ـ أعُوذُ باللهِ من العَقرَابِ
الشَّائِلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ
بمعنى : بِمُنتزحٍ، وينبع، والعقرب الشَّائلة.
وقرأ ابن عباسٍ، وابن عمر، ومجاهدٌن وقتادة، والضحاك، الجحدري، وأبان بن تغلب ـ رحمهم الله ـ :" مُتْكاً " بضمِّ الميم، وسكون التاء، وتنوين الكافِ، وكذلك قرأ ابن هرمزٍ، وعبدالله، ومعاذ ؛ إلاَّ أنهما فتحا الميم.
والمُتْكُ : بالضم والفتح : الأترجُ، ويقال : الأترنج، لغتان ؛ وأنشدوا :[الوافر] ٣٠٨٧ـ نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواعِ جِهَارَا
وتَرَى المُتْك بَيْنَنا مُسْتَعَارَا


الصفحة التالية
Icon