قال وهبٌ : ما تت جماعةٌ منهن.
قال ابن الخطيب : وعندي أنَّهُ يحتملُ وجهاً آخر، وهو أنهنَّ إنَّما أكبرنه ؛ لأنَّهن رأين عليه نُور النبوَّة، وبهاء الرِّسالة وآثار الخضوع، والإنابة، وشاهدنَ منه معاني الهيْبَة، والسكينة، وهي عدمُ الالتفاتِ إلى المطعُومِ المنكُوحِ، وعدم الاعتدادِ بهنَّ، واقرانِ هذه الهيبة الإلهية، بذلك الجمال العظيم، فَتعجبن من تلك الحالةِ، فلا جرم أكبرنه، وعظمنهُ، ووقع الرُّعبُ والمهابة في قولبهن، وهذا عندي أولى.
فإن قيل : كيف يطابقُ على هذا التَّأويل قوله :" فَذلكُنَّ الَّذي لمتنَّني فيه " ؟ وكيف تصير هذه الحالة عذراً لها في قوَّة العشق، وإفراط المحبَّة ؟.
قلت : تقرر أن المحبُوب متبوع، فكأنَّها قالت لهُنَّ : هذا الخلق العجيب انضمَّ إليه هذه السيرةُ الملكية الطَّاهرة المطهرة.
فحسنه يوجب الحب الشَّديد، والسِّيرة الملكية توجب اليأسَ عن الوصول إليه، فلهذا وقعت في المحبَّة والحسرةِ، وهذا التأويل أحسنُ، ويؤيده قولهم :﴿مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾.
قوله :" حَاشَا للهِ " عدَّها النحويون من الأدواتِ المترددة بين الحرفية والفعلية، فإن جرَّت، فهي حرفٌ، وإن نصبت، فهي فعلٌ، هي من أدوات الاستثناء، ولم يعرف سيبويه فعليَّتها، وعرفها غيره، وحكوا عن العرب :" غَفَرَ اللهُ لِي، ولِمَنْ سَمِعَ دُعائِي، حَاشَا الشَّيطانَ، وابن أبي الأصْبَعِ " بالنصب، وأنشدوا :[الوافر] ٣٠٩٢ـ حَشَا رَهْطَ النبيِّ فإنَّ مِنهُمْ
بُحُوراً لا تُكدِّرُها الدِّلاءُ
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٧٧
بنصب " رَهْطَ "، و " حَشَا " لغة في " حَاشَا " كما سيأتي.
قال الزمخشري :" حَاشَى " كلمةٌ تفيد التنزيه، في باب الاستثناء، تقول : أساء القوم حَاشَى زَيدٍ، وقال :[الكامل] ٣٠٩٣ـ حَاشَى أبِي ثَوْبَانَ إنَّ بهِ
ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
وهي حرفٌ من حروف الجرِّ ؛ فوضعت موضع التنزيه، والبراءةٍ، فمعنى حاشا للهِ : براءة الله، وتنزيه الله، وهي قراءة ابن مسعودٍ.
٨٥
قال أبو حيَّان : وما ذكر أنها تفيد التنزيه في باب الاستثناء، غير معروفٍ عند النحويين، لا فرق في قولك : قَامَ القومُ إلاَّ زيداًن وقَامَ القوْمُ حَاشَا زيْد ولمَّا مثل بقوله : أساء القوم حاشا زيد، وفهم من هذا التمثيل براءة زيدٍ من الإساءةِن جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ، وأما ما أنشده من قوله :[الكامل]
حَاشَا إبِي ثَوْبانَ
البيت.
فهكذا ينشدهُ ابن عطيَّة، وأكثر النحاة، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدر بيتٍ على عجز آخر من بيتين، وهما :[الكامل] ٣٠٩٤ـ حَاشَى أبِي ثَوْبانَ إنَّ أبَا
ثَوْبانَ لَيْسَ بِبَكْمَةٍ فَدْمِ
عَمرو بنِ عَبْدِ اللهِ إنَّ بِهِ
ضنًّا عن المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
قال شهابُ الدِّين :" قوله :" إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشريُّ لا يعرفه النحاة " ولم ينكروه ؛ وإنما لم يذكروه في كتبهم ؛ لأنَّ غالب : فَنِّهِمْ " صناعة الألفاظ دون المعاني، ولما ذكروا مع أدوات الاستنثاءِ " لَيْسَ "، و " لا يكُونُ " و " غَيْر "، لم يذكروا معانيها.
إذ مرادهم مساواتها لـ " إلاَّ " في الإخراج، وذلك لا يَمْنَع من زيادة معنى في تلك الأدوات ".
وزعم المبردُ، وغيره كابن عطيَّة : أنَّها تتعينُ فعليتها، إذا وقع بعدها حرف جرٍّ كالآية الكريمةن قالوا : لأن حرف الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً ؛ كقوله :[الوافر] ٣٠٩٥ـ......................
وَلا لِمَا بِهِمْ أبَداً دَواءُ
وقول الآخر :[الطويل] ٣٠٩٦ـ فأصْبَحنَ لا يَسْألنَهُ عَن بِمَا بِهِ
......................
فيتعيَّن أن يكون فعلاً فاعله ضمير يوسف، أي : حَاشَى يوسف، و " للهِ " جارٌّ ومجرورٌ، متعلق بالفعل قبله، واللام تفيد العلَّة، أي : حَاشَا يوسف أن يُقارِفَ ما رمته به ؛ لطاعة الله، ولمكانه منه، أو لترفيع الله أن يرمى بما رمتهُ به، أي : جَانَبَ المعصية ؟ لأجل الله.
وأجاب النَّاسُ عن ذلك : بأنَّ " حَاشَا " في الآية الكريمة، ليست حرفاً ولا فعلاً وإنَّما هي اسم مصدر بدلٌ من اللفظِ بفعله ؛ كأنه قيل : تنزيهاً للهِ، وبراءة له، وإنما لم ينون ؛ مراعاة لأصله الذي نقل منه، وهو الحرف، ألا تراهم قالوا :" مِنْ عَنْ يَمِينه " فجعلوا
٨٦


الصفحة التالية
Icon