أن يكون ترك الإشراك من فضل الله ـ تعالى ـ والقاضي يصرفه إلى الإلطاف والتسهيل ؛ فكان هذا تركاً للظاهر، وأمَّا صرفه إلى النبوة، فبعيدٌ ؛ لأن اللفظ الدالَّ على الإشارة يجبُ صرفه إلى أقرب المذكورات، وهو هنا عدمُ الإشراك.
قوله تعالى :﴿يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ : يجوزُ أن يكون من باب الإضافة للظروف ؛ إذ الأصل : يا صاحبيّ في السِّجن، ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المشبه بالمعفول به، والمعنى : يا سَاكِني السِّجن، وذكر الصُّحبة، لطُولِ مقامهما فيه ؛ كقوله تعالى :﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [الأعراف : ٤٤ ـ ٥٠].
وقوله :﴿أَمِ اللَّهُ﴾، هنا : متًّصلةٌ ؛ عطفت الجلالة على " أرْبَابٌ ".
فصل اعلم أنه ـ عليه ا لصلاة والسلام ـ لما أدَّعى النبوة في الآية الأولى، وكان إثباتُ النبوة مبينًّا على إثبات الإلهيَّة، لا جرم شرع في هذه الآيةِ في تقريرِ الإلهياتِ، ولما كان أكثرُ الخلقِ مقرِّين بوجودِ الإله العالم القادر، وإنما ا لشأنُ في أنهم يتخذُون أصناماً على صُورِ الأرواح الفكلية، ويعبدونها، ويتوقَّعُون حصول النَّفْعِ والضُّر منها، لا جرم كان سعيُ أكثر الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ في المنع من هذه، وكان الأمر على هذا إلى زمانِ يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى الأنبياء والمرسلين ـ.
فلهذا السبب، شرع في ذكر ما يدلُّ على فسادِ العقول بعبادةِ الأصنام ؛ فقال :﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾، والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكارِ، وتقريرُ فساد القول بعبادة الأصنام : أنه ـ تعالى ـ بيَّن أن كثرة الآلهةِ توجب الخلل والفاسد في هذا العالم ؛ لقوله تعالى :﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء : ٢٢] فلمَّا قرَّر أنَّ كثرة الآلهة تُوجبُ الخلل والفساد، وكونُ الإله واحدٌ، يقتضي حصول الأنتظام، وحسن الترتيب ـ قال هاهنا :﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾.
وأما تقرير كون كثرةِ الآلهةِ، توجب الخلل والفساد في العالم : إنَّه لو كان اثْنانِ أو ثلاثةُ، لم نعلم من الذي خلقنا، ورزقنا، ودفع الآفاتِ عنَّا ؛ فيقع الشِّرْكُ في أنَّا نعبدُ هذا أم ذاك.
ومعنى : كونهم متفرقين، أي : شتَّى، هذا من ذهب، وهذا من فضةٍ، وها من حديدٍ، وهذا أعلى، وهذا أوسط، وهذا أدْنَى، متباينون لا تضر ولا تنفعُ.
﴿خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾، " الوَاحِدُ " : لا ثاني لهُ، " القَهَّارُ " الغالبُ على الكلِّ.
١٠٥
ثُمَّ عجز الأصنام، فقال :﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً﴾ أي : من دون الله، وإنما ذكر بلفظ الجمعِ، وقد ابتدأ الخطاب لاثنين ؛ لأنه أراد جميع أهل السِّجن، وكلَّ من هو على مثل حالهمَا من الشرك.
فإن قيل : لم سمَّاها أرباباً، وليست كذلك ؟.
فالجوابك لا عتقادهم فيها أنَّها كذلك، وأيضاً : الكلامُ خرج على سبيل الفرضِ، والتقدير، والمعنى : أنَّها إن كانت أرباباً، فهي خيرٌ أم الله الواحدج القهار ؟.
فإن قيل : كيف يجوزُ التفاضلُ بين الأصنامِ، وبين الله ـ تعالى، حتَّى قيل : إنها خيرٌ أم اللهِ ؟.
فالجوابُ : أنَّهُ خرج على سبيل الفرض، والمعنى : لو سلمنا أنَّه حصل فيها ما يوجبُ الخير، فهي خيرُ أم اللهُ الواحدُ القهار ؟.
قوله تعالى :﴿إِلاَّ أَسْمَآءً﴾، إما أن يراد بها المسميات، أو على حذف مضاف، أي : ذواتُ المُسمَّيات، و " سَمِّتُمُوهَا " ك صفةٌ، وهي متعديةٌ لاثنين حذف ثانيهما، أي : سَمَّيتُمُوها آلهة.
و " مَا أنْزَلَ " : صفةٌ لـ : أسْمَاء "، و " مِنْ " : زائدةٌ في :" مِنْ سُلطَانٍ "، أي : حُجَّةٍ.
و " إن الحُكْمُ " :" إنْ " نافيةٌ، ولا يجوز الإتباع بضمَّة الحاء ؛ كقوله :﴿وَقَالَتِ اخْرُجْ﴾ [يوسف : ٣١]، ونحو ؛ لأنَّ الألف واللام كلمةٌ مستقلةٌن فهي فاصلةٌ بينهما.
فصل قال في الآية :﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾، وذلك يدلُّ على وجودِ هذه المسميات، ثم قال في عقبه :﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ﴾، وهذا يدلُّ على أنَّ المسمى غير حاصلٍ، وبينها تناقضٌ.
والجوابُ : أنَّ الذوات موجودةٌ حاصلةٌ إلاَّ أنَّ المسمى بالإله غيرُ حاصلٍ ؛ وبيانه من وجهين : الأول : أن ذوات الأصنام، وإن كانت موجودةً، إلاَّ أنَّها غيرُ موصوفةٍ بصفاتِ الإلهية، وإذا كان كذلك، كان الشيءُ الذي هو مسمَّى بالإلهيَة في الحقيقة غير موجودٍن ولا حاصلٍ.
الثاني : رُوِيَ أنَّ عبدةً الأصنام مشبهةٌ، فاعتقدوا أنَّ الإله هو النورُ الأعظمُ، وأن الملائكة أنوارٌ صغيرةٌ ؛ فوضعوا علَى صورة تلك الأنوارِ هذه الأرباب، ومعبودهم في الحقيقةِ هو تلك الأنوارُ، ثُمَّ إنَّ جماعة ممن يعبدون الأصنام، قالوا : نحن لا نقولُ إنَّ هذه الأصنام آلهةٌ للعالم، بمعنى أنَّها هي التي خلقت العالم، إلاَّ أنَّا نسميها آلهةٌ نعبدها ؛ لا عتقادنا أنَّ الله أمرنا بذلك.